اخر الاخبار

تعثر مشاريع كبرى في إسطنبول مع استمرار الاضطرابات السياسية

عندما ضرب زلزال بقوة 6.2 درجة إسطنبول أواخر أبريل، كان رئيس بلدية المدينة وعدد من كبار مسؤوليها في مركز الهزة بمنطقة سيليفري جنوب غرب المدينة. لكنهم لم يتمكنوا من وضع خطة لمواجهة الكارثة المحتملة، إذ كانوا محتجزين داخل سجن مرمرة، أكبر منشأة عقابية شديدة الحراسة في أوروبا.

منذ منتصف مارس، اعتُقل أكثر من 100 من مسؤولي وموظفي البلدية، ما أثار احتجاجات واسعة على ما يصفها منتقدون بأنها حملة لإقصاء الأصوات المعارضة. ومع صدور حكم بالسجن لأكثر من عام على رئيس بلدية اسطنبول أكرم إمام أوغلو على خلفية اتهامات سابقة، واستمرار احتجاز عدد من المسؤولين البارزين الآخرين، أصبحت مشاريع حيوية أطلقها رئيس البلدية ذو الشعبية الذي يقضي ولايته الثانية بالمنصب في مهب الريح. في الوقت نفسه، تتحرك الحكومة المركزية للمضي في تنفيذ مشروع قناة بمليارات الدولارات يعارضه إمام أوغلو بشدة.

قد يهمك أيضاً: تركيا.. سجن عمدة إسطنبول إمام أوغلو على ذمة المحاكمة والمعارضة تندد بـ”مؤامرة سياسية”

“الاعتقالات مدروسة بعناية، وتستهدف أشخاصاً يشغلون مواقع رئيسية في صناعة القرار” بحسب مهندس التخطيط العمراني المتقاعد مراد جوفينتش، الرئيس السابق لمركز دراسات إسطنبول بجامعة قادر هاس. وأضاف: “بسجن هؤلاء الأعضاء في فريق إمام أوغلو، تحاول الحكومة شل القدرة على إدارة شؤون البلدية اليومية بكفاءة”.

شملت الاعتقالات رؤساء مرفق المياه، وهيئة الإسكان، وهيئة النقل العام، ووكالة التخطيط العمراني، إضافة إلى ثمانية رؤساء أحياء ينتمون للمعارضة. وفي أوائل يوليو، تم توقيف عشرات السياسيين المعارضين خارج إسطنبول، بينهم رئيسا بلديتي أنطاليا وأضنة ورئيس بلدية إزمير السابق.

تصعيد بين المعارضة وحكومة أردوغان

معظم هؤلاء يواجهون اتهامات بالفساد استناداً إلى أدلة لم تُنشر بعد. وعند اعتقال إمام أوغلو في مارس، اعتُبر الأمر على نطاق واسع محاولةً سياسيةً لإسقاط منافس رئيسي للرئيس التركي رجب طيب أردوغان قبل أيام من إعلان إمام أوغلو عزمه الترشح للرئاسة. لكن الاعتقالات الكثيرة اللاحقة تشير أيضاً إلى تصعيد في الصراع المستمر منذ سنوات بين البلدية التي تديرها المعارضة في أكبر المدن التركية والحكومة المركزية القوية بقيادة أردوغان، مع ما لذلك من تداعيات واسعة على المدينة وسكانها البالغ عددهم 16 مليون نسمة.

ينفي مسؤولو حزب العدالة والتنمية الحاكم أي صلة لهم بالملاحقات القضائية، ويقولون إنها ليست ذات دوافع سياسية.

طالع أيضاً: “حسابات السياسة” تطغى على الملاحقات القضائية لعمدة إسطنبول

يدير إسطنبول حالياً رئيس بلدية بالإنابة من نفس حزب إمام أوغلو، وهو نوري أصلان، الذي قال في مؤتمر صحفي يوم 24 يوليو إن البلدية “تكافح ليلاً ونهاراً لضمان عدم توقف الخدمات أو تعطيلها”.

توضح سيرين سيلفين كوركماز، المحللة السياسية والزميلة في مركز إسطنبول للسياسات، أن الاعتقالات “خلقت عبئاً إدارياً على من تبقى من الموظفين، إذ أصبح عليهم القيام بمهامهم إلى جانب مهام زملائهم السجناء”. وأضافت: “اضطرت البلدية لتأجيل بعض مشاريعها ومبادراتها، وبما أن الجميع يترقب عمليات جديدة ضدهم فحالة الضبابية تؤثر على الفريق الإداري بأكمله”.

تقدم مشروع القناة المثير للجدل بإسطنبول

ربما تكون أبرز القضايا التي تصادمت فيها رؤية حزب المعارضة الذي ينتمي إليه إمام أوغلو مع الرئيس أردوغان هي مشروع القناة العملاق، الذي تقدر قيمته بمليارات الدولارات، ومن شأنه أن يشطر الجزء الأوروبي من اسطنبول إلى نصفين. وصف إمام أوغلو مشروع “قناة اسطنبول” بأنه “خنجر سيُغرس في قلب المدينة”، بسبب تأثيره السلبي على الأراضي الزراعية والغابات وإمدادات المياه، إلى جانب المخاوف من أن يؤدي إلى زيادة الاكتظاظ السكاني في المنطقة. أردوغان نفسه وصف المشروع  بأنه مشروع “جنوني” يهدف إلى إنشاء مسار ملاحي بديل لمضيق البوسفور.

على الرغم من تشكيك معظم المراقبين في قدرة الحكومة التركية على تأمين التمويل اللازم لتنفيذ القناة المزمعة بطول 28 ميلاً بين البحر الأسود وبحر مرمرة، مضت الحكومة قدماً في تطوير المناطق المحيطة بمسار المشروع، ومعظمها أجزاء ما زالت ذات طابع ريفي إلى حد كبير في غرب المدينة.

يقول مراد جوفينتش إن “احتمالية إنشاء القناة، سواء تحققت أم لا، تولد طلباً هائلاً على العقارات المجاورة، والحكومة تعمل حالياً على إنشاء مشروعات إسكان ضخمة”.

يشير بعض المراقبين إلى أن وتيرة شراء أراضي البناء على طول مسار القناة تسارعت منذ اعتقال إمام أوغلو. ففي إبريل، ذكرت وسائل إعلام محلية أن وزارة البيئة والتطوير العمراني والتغير المناخي التركية سمحت بإقامة مشروعات إنشائية على أراضٍ زراعية إضافية تقع ضمن حوض سد سازليديره على مسار القناة، وطرحت مناقصات لمشروعات سكنية وتجارية بقيمة مليار دولار. وسرعان ما بدأت مقاطع فيديو تنتشر على منصات التواصل الاجتماعي لحفارات تعمل في منطقة سازليديره.

اقرأ أيضاً: بعد رسالة الأدميرالات.. بنوك تركية ترفض تمويل “قناة إسطنبول”

مخالفة لوائح حماية المياه

في 22 إبريل، أرسلت هيئة المياه في إسطنبول (إسكي) إخطاراً إلى إدارة تطوير الإسكان التركية (توكي) يفيد بأن الموقع المخصص لبناء 28 ألف وحدة سكنية يخالف لوائح حماية المياه، وطالبت بوقف العمل. وبعد أربعة أيام، تم توقيف المدير العام لهيئة المياه شفق باشا، قبل أن يُفرج عنه لاحقاً، ويُوضع قيد الإقامة الجبرية.

ذكر بيان صادر عن مكتب أردوغان أن مشروع الإسكان الذي تنفذه “توكي” “لا علاقة له” بمشروع قناة إسطنبول، مضيفاً أن “وتيرة العمل لم تتأثر سلباً أو إيجاباً بظروف أي شخص”. وأوضح متحدث باسم وزارة البيئة والتطوير العمراني أن المشروع يهدف إلى بناء مساكن لذوي الدخل المنخفض لاستيعاب سكان المدينة المقيمين في مناطق معرضة لخطر الزلازل، مؤكداً عبر البريد الإلكتروني أن “كل خطوة في هذا المشروع اتُخذت وتُتخذ وفق اللوائح الحالية للتخطيط العمراني، التي أُعدت بعد دراسة آراء جميع المؤسسات والجهات المعنية”.

من جانبه، يرى فيكرت أدامان، أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة بوغازيتشي بإسطنبول، أن المشروع ستكون له “آثار سلبية ضخمة على البيئة، وأحواض المياه التي تزود إسطنبول بمياه الشرب، والأراضي الزراعية في المنطقة، وإمدادات الفاكهة والخضروات بالمدينة”. لكنه أشار إلى أن الحكومة والبلدية لم تنجزا دراسة جدوى شاملة لتحليل التكلفة والعائد تتيح تقييم المشروع وآثاره المحتملة بشكل كامل، قائلاً: “إذا كنت ضد أردوغان فأنت ضد القناة، وإذا كنت تؤيد أردوغان فأنت تؤيد القناة. هذا ليس منطقياً”.

المشروعات العملاقة مثل القناة كانت محور تركيز أردوغان وحزب العدالة والتنمية الحاكم عندما تولوا إدارة بلدية إسطنبول الكبرى بين عامي 2004 و2019. (وكان أردوغان نفسه قد شغل منصب رئيس بلدية إسطنبول لمدة أربع سنوات في تسعينات القرن الماضي). وخلال تلك الفترة “كانت إدارة المدينة أداة لتنفيذ هوس الحكومة المركزية بالنمو”، على حد قول مراد جمال يالجنتان، أستاذ التخطيط العمراني في جامعة معمار سنان للفنون الجميلة في إسطنبول.

كان كثير من مهندسي التخطيط العمراني في الفريق الأساسي لإمام أوغلو قد عارضوا بعض هذه المشروعات العملاقة، مثل إنشاء أحد أكبر المطارات في العالم وجسر ثالث فوق مضيق البوسفور، أثناء شغلهم وظائف سابقة في جمعيات مهنية ومنظمات للمجتمع المدني.

تجميد مشاريع الإسكان والاستعداد للطوارئ

منذ أن تولى إمام أوغلو منصبه، ركزت إدارته على أولويات مختلفة، أبرزها معالجة المباني القديمة المهددة بالانهيار في حال وقوع زلزال قوي، وزيادة المساحات الخضراء والمفتوحة، والتعامل مع أزمتي الإسكان والاقتصاد المستمرتين.

اقرأ المزيد: إسطنبول محاصرة بين أزمة الإسكان وأخطار الزلازل

يقول أوكتاي كارغول، المدير العام لوكالة التخطيط في إسطنبول، إن من بين المشاريع الحيوية التي تأثرت سلباً بالاعتقالات برنامج البلدية لمساعدة السكان على ترميم أو إعادة بناء منازلهم المعرضة لخطر الانهيار في حال وقوع زلزال قوي، وهو مشروع تقوده شركة الإسكان التابعة للبلدية “كيبتاش” منذ إطلاق “مشروع تجديد إسطنبول” عام 2021. تقوم “كيبتاش” بدور الوسيط بين المؤسسات المالية والمقاولين لمساعدة أصحاب المنازل في الحصول على التمويل اللازم بفائدة مخفضة لإعادة البناء، إلا أن “سجن مدير كيبتاش علي كورت وآخرين جعل الناس مترددين وقلقين من المشاركة في هذه العملية”، بحسب كارغول.

يشير مراد جمال يالجنتان إلى أن إدارة إمام أوغلو، التي فازت بالانتخابات مرتين في 2019 و2024، أعطت أولوية لمشاركة الجمهور وطورت مشاريع تستجيب لاحتياجات عبّر عنها السكان.

من بين هذه المبادرات إنشاء غابات حضرية جديدة وممرات خضراء، بعضها استُخدم كمناطق آمنة للتجمع عقب زلزال أبريل، إضافة إلى تأسيس حضانات للأطفال تديرها البلدية برسوم مرنة، وتشغيل 18 مطعماً بلدياً تقدم وجبات مُشبعة ومنخفضة التكلفة للجمهور.

كما عملت الإدارة على إعداد خطة عمرانية محدثة للمدينة، إذ تعود آخر خطة إلى عام 2009 حين كان عدد سكان إسطنبول أقل بنحو 3 ملايين نسمة. لكن مهندسي “رؤية 2050” يقبعون حالياً في السجون. ويقول يالجنتان إن “أعمال التخطيط لم تتوقف بالكامل، لكنها من المستحيل ألا تتأثر في ظل غياب الخبراء الذين من المفترض أن يكونوا في مقدمة هذه الجهود”.

تحول في موازين القوى المحلية

ازدادت التحديات التي تواجه سيطرة البلدية على المدينة مع تعيين الحكومة المركزية أوصياء لإدارة منطقتين بدلاً من رؤساء الأحياء المعتقلين. إحدى هذه المناطق هي شيشلي في قلب المدينة المكتظ، حيث أوقف رئيس الحي المعتقل رسل أمره شاهان، وهو مخطط حضري انتُخب في 2024 بنسبة 67% من الأصوات، مشروع بناء برج تجاري، مؤكداً أن المنطقة يجب أن تبقى مساحة مفتوحة ومكاناً للتجمع في حال وقوع زلزال. إلا أن المسؤول الذي حل محله سمح باستئناف الأعمال. وتعلق المحللة السياسية سيرين سيلفين كوركماز قائلة: “هذه الاعتقالات سياسية، لكن عندما ننظر إلى حالة مثل شيشلي، يتضح أن البعد الاقتصادي للقصة مهم أيضاً”.

حتى الآن، لم تسعَ الحكومة المركزية إلى استبدال إمام أوغلو بأحد الأوصياء، وهو إجراء من شأنه إثارة ردود فعل سياسية أوسع، لكن كوركماز ترى أن أردوغان يحقق نتيجة مماثلة من خلال “سجن كل هؤلاء الأشخاص وتعطيل فاعلية البلدية”.

على الرغم من أن حزب العدالة والتنمية الحاكم، الذي يقود تركيا منذ 2002، اتخذ في بدايات حكمه خطوات لتعزيز سلطة الحكومات المحلية، فإن هذا الاتجاه تغير منذ أن بدأ حزب الشعب الجمهوري المعارض يحوز السيطرة على مدن رئيسية مثل إسطنبول والعاصمة أنقرة في آخر جولتين انتخابيتين محليتين. وتتخذ الحكومة المركزية حالياً قرارات التخطيط الأساسية، مثل تحديد مناطق التطوير العمراني بما في ذلك المناطق المحيطة بمسار قناة إسطنبول، ويقول المنتقدون إن هذه القرارات تستند إلى اعتبارات الربح أكثر من احتياجات المدينة الفعلية.

تشير سينا نور غولجوك، المساعدة ببرنامج للسياسات الحضرية في “مركز العدالة المكانية” في إسطنبول، إلى أن “الحكومات المحلية تلعب دوراً محورياً في تقييم المشاريع الكبرى، خاصة من خلال تقديم الرأي الفني والتعبير عن المخاوف العامة”. وتضيف أن تهميش دور هذه الحكومات يقلل أيضاً من فرص إطلاع السكان وجمع آرائهم.

وفي حين ينتظر إمام أوغلو وبقية المسؤولين المعتقلين محاكماتهم، يجري إعداد تشريع وطني جديد يُتوقع أن يمنح مزيداً من الصلاحيات للمحافظين المعينين من قِبل أنقرة، ويقلص من استقلالية رؤساء البلديات المنتخبين في قضايا مثل خطط تقسيم المناطق، وتراخيص البناء، وتقديم المساعدات الاجتماعية.

يقول كارغول: “نحاول جعل إسطنبول مدينة أفضل للمعيشة وأكثر قدرة على الصمود، حالياً ومستقبلاً، لكن بموجب هذا القانون قد تُسحب منا مهامنا الأساسية كبلدية، ومسؤولياتنا الرئيسية التي ترتبط مباشرة بخدمة سكان المدينة”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *