تصنيفات لا أساس لها.. هل هناك دَينٌ جيد وآخر رديء؟
يميل الناس إلى التفريق بين “الدَّين الجيد” و”الدَّين الرديء”، سواء على صعيد التمويلات الشخصية أو الإنفاق العام. وفقاً لهذه النظرية، الدين الجيد هو الذي يحقق عائداً على المدى الطويل، بينما السيئ هو الذي لا يحقق ذلك.
وعليه، لا مانع من تمويل شراء سيارة جديدة تساعدك في الوصول إلى وظيفة بدخل أعلى، أو التصويت لصالح قرض حكومي جديد من شأنه تحفيز النموّ الاقتصادي. لكن حاول ألا تقترض من أجل الحصول على قصة شعر باهظة أو زيادة رواتب موظفي الحكومة.
إدارة المخاطر هي الأساس
في الحقيقة، هذا المنطق لا يستقيم. فلا يوجد ما يسمى بالديون الجيدة والرديئة ما دام العالم تسوده حالة من عدم اليقين، بل الأمر يرتبط حصراً بإدارة المخاطر التي قد تكون جيدة أو سيئة.
وهذا أمر لا بدّ من استيعابه جيداً، في وقتٍ تواصل فيه الولايات المتحدة زيادة الدين العام الذي ارتفع لثلاثة أمثاله خلال العقدين الماضيين، ليبلغ نحو 36 تريليون دولار.
لتوضيح الفكرة، تخيل أنك في عام 2010، ولديك موافقة للحصول على قرض بقيمة 200 ألف دولار. هل تستخدم هذا المبلغ في شراء أصل جديد مغمور لا تعرف الجدوى منه أم لسداد مصاريف الدراسة في أحد أعرق الصروح العلمية في العالم؟
لو كنت استخدمت القرض لشراء ذلك الأصل -عملة بتكوين- لارتفعت قيمة استثمارك إلى ما يتجاوز 218 مليار دولار اليوم. أما لو كنت اخترت بدلاً من ذلك الحصول على شهادة جامعية، من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا مثلاً، فيمكننا توقُع أن تكون قد جمعت حوالي 1.5 مليون دولار أكثر مما كنت ستجمعه لو لم تلتحق بالجامعة على الإطلاق. وهكذا يكون العائد على شهادة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا نحو 14%، بينما يتجاوز العائد على بتكوين 1,000,000%.
يستتبع ذلك أن الاقتراض من أجل شراء “بتكوين” كان فكرة ممتازة، بينما الاقتراض للدراسة في معهد ماساتشوستس أقل منفعة، أليس كذلك؟
الأمر ليس كذلك بالضرورة. هذا التحليل يُغفل مفهوم إدارة المخاطر. كلّ شهادات معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا تقريباً تؤتي ثمارها عبر حصول حاملها على راتب أعلى مدى الحياة، ويمكنك تمويل دراستك من خلال قرض بفائدة منخفضة وثابتة (يوجد إمكانية الحصول على إعفاء حكومي من السداد). أما “بتكوين” فهي مجرد أداة مضاربة، صحيح أنها أحياناً تجلب عوائد ضخمة، كما هو الحال مع جميع الأصول عالية المخاطر، ولكنها تعتمد بدرجة كبيرة على الحظ.
موازنة بين معدل الفائدة الحقيقي والنموّ الاقتصادي
هذا المنطق أيضاً ينطبق في سياق سياسي. يُفضل الديمقراطيون عادةً الاقتراض لتمويل الإنفاق الحكومي على مشاريع مثل الطرق السريعة أو مصانع الرقائق التي تسهم في دعم الاقتصاد وتعزيز النموّ. في المقابل، يؤيد الجمهوريون عموماً خفض الضرائب، باعتبار أن وضع المزيد من الأموال في أيدي القطاع الخاص يعزز النموّ.
الحُجة واحدة في الحالتين: الدَين الجيد هو الذي يعزز معدل النموّ الاقتصادي بما يكفي ليتجاوز معدل الفائدة الحقيقي.
خلال العقد الثاني من الألفية، رأى بعض الاقتصاديين أن انخفاض معدلات الفائدة فرصة للحكومة لزيادة الاقتراض والإنفاق، بناءً على نظرية أن معدل النموّ سيفوق معدل الفائدة الحقيقي. لكن الثغرة في هذا الطرح هي أن كليهما يتغيران بمرور الوقت.
لا يكفي القول إن على الحكومة الاستدانة من أجل زيادة الإنفاق أو خفض الضرائب. فبغض النظر عن معدلات الفائدة، الاختبار الحقيقي للصحة المالية يعتمد على إدارة المخاطر؛ إذا كانت جيدة فستزيد من فرص نجاحك في الرهان، أو على الأقل ستجنبك الوقوع في مزيد من الديون. وهذا يتطلب اختيار الاستثمارات المناسبة وإدارة تكلفة الديون، أي محاولة إدارة كلّ من معدل الفائدة الحقيقي والنموّ الاقتصادي في عالم يسوده عدم اليقين.
إدارة المخاطر الجيدة تبدأ باستثمار الأموال المقترضة في مجالات يُرجح أن تحقق عوائد. يرى بعض الاقتصاديين أن الإنفاق الحكومي أياً كان نوعه يستحق الاقتراض من أجله، حتى لو كان لمجرد دفع أموال للناس ليحفروا حفراً ثمّ يردمونها، لأن ذلك يسهم في خلق فرص العمل.
لكن الأمر ليس كذلك. فالعائد على كلّ دولار تنفقه الحكومة يمكن أن يتفاوت بين خمسة سنتات وخمسة دولارات. ومجرد تحفيز الاقتصاد على المدى القصير لا يسهم دائماً في خلق القيمة، ليس فقط لأن بعض المشاريع أفضل من غيرها، وإنما أيضاً بسبب تكلفة الفرص البديلة. إنفاق المال على الحفر والردم يعني توجيه قدر أقل من الأموال والعمالة إلى مشاريع أكثر إنتاجية تسهم في نموّ أكبر على المدى البعيد.
حتى إذا اخترت مشروعاً يُتوقع أن يخلق قيمة، لنقل مثلاً تركيب محطات شحن للسيارات الكهربائية، فعليك التأكد من أن تنفيذ المشروع سيولّد عائداً إيجابياً. الكثير من مؤيدي قانون الاستثمار في البنية التحتية والوظائف، وقانون الرقائق، وقانون الحدّ من التضخم، يشعرون بالإحباط لأن تلك القوانين فقدت قيمتها بالنسبة لدافعي الضرائب بسبب القيود التنظيمية المبالغ فيها، والحاجة إلى إرضاء المجموعات السياسية المختلفة، ما أدى إلى زيادة التكاليف ومدد التنفيذ.
خطأ في التقدير
في المقابل، شكك الكثير من معارضي هذه القوانين في قدرة الحكومة على تنفيذها بكفاءة، وهذا التشكيك من الأسباب التي تدفع كثيراً من الجمهوريين لتفضيل خفض الضرائب. لكن الشيطان يكمن في التفاصيل هنا أيضاً، فخفض الضرائب يمكنه أن يزيد النموّ لكن ذلك نادراً ما يكون بالقدر الكافي لتغطية تكلفة الخفض نفسه. الأمر يعتمد على معدل الضرائب الحالي، وطريقة هيكلة الإعفاءات الضريبية، وغيرها من العوامل. وكما بالنسبة للإنفاق، تخضع تعديلات قانون الضرائب إلى ضغوط سياسية أيضاً.
ميزة أخرى لإدارة المخاطر هي أنها تأخذ الإطار الزمني في الحسبان. فبعض المشروعات الاستثمارية يمكنها في ما يبدو أن تحقق العائد المرجو خلال السنوات الخمس الأولى، ولكن العائد يتضاءل بمرور الوقت ويظل الدين قائماً. وربما تسهم الموجة الأولى من الاستثمار الحكومي في قطاع بعينه في خلق الوظائف وتعزيز الناتج المحلي الإجمالي بشكل فوري، ولكن ما يحدث من تحولات وهدر مع مرور الزمن يقوّض إنتاجية الاقتصاد بشكل عام.
هناك بعض التفاصيل الأخرى، مثل هيكل الدين، وهي مسألة لا تقل أهمية عن الاستثمار نفسه. ونادراً ما تكون إدارة المخاطر مسألة بسيطة في هذه الحالة. فمعدلات الفائدة عادةً ما تكون أقل على الديون الأقصر أجلاً، لذا إذا كنت تتوقع أن تكون الفائدة أقل في المستقبل، فسيكون إصدار دين قصير الأجل وتجديده عند الاستحقاق أقل تكلفة. ولكن هناك احتمال أن تكون مخطئاً في رهانك على مستقبل أسعار الفائدة، وقد وضعت الحكومة بعض الرهانات الخاطئة في الآونة الأخيرة.
يوضح الرسم البياني أعلاه متوسط مدة استحقاق الدين الحكومي مقارنة بمعدل الفائدة على السندات لأجل 10 سنوات.
شهدت معظم سنوات العقد الثاني من الألفية معدلات فائدة دون 3%، واقتربت حتى من الصفر صوب نهايته، لكن متوسط عمر الدين الحكومي كان أكثر قليلاً من خمس سنوات.
كانت الحكومة تستطيع إصدار المزيد من السندات لأجل 10 سنوات أو 20 أو 30، وتواجه مدفوعات أقل الآن. لكنها لم تفعل، والآن أصبحت معدلات الفائدة أعلى. زادت آجال الديون بالفعل مع انخفاض الفائدة، لكن ليس كثيراً. وهكذا لم تستغل الحكومة الانخفاض القياسي في أسعار الفائدة كما ينبغي.
اهتمام أكبر بإدارة المخاطر
ربما ظنّ صانعو السياسات أن أسعار الفائدة المنخفضة أصبحت هي الوضع الطبيعي وستدوم لفترة طويلة. إن صح ذلك فهو يعني أنهم أساؤوا إدارة المخاطر. لا شيء في السوق يدوم إلى الأبد، والإدارة الجيدة للمخاطر تأخذ ذلك في عين الاعتبار.
يرى المتحمسون للاقتراض أنه لا يمكن مقارنة استدانة الحكومة باستدانة الأسر، فالحكومة قادرة على طبع النقود لسداد التزاماتها. لكن هذا لا يلغي أهمية إدارة المخاطر؛ بل يكسبها، على النقيض من ذلك، مزيداً من الأهمية، وإن كانت أكثر صعوبة.
على خلاف الأسر، الإنفاق الحكومي المستند إلى الاستدانة (حتى على المشاريع الجيدة) يمكن أن يزيد من التضخم، ما يزيد بالتالي من كلفة الاقتراض. لذلك، على الحكومات أن تكون أكثر حكمة في اختيار استثماراتها وإدارة ديونها، لأن هذه الديون ستمتد لعقود طويلة وربما تضع عبئاً أكبر على كاهل الأجيال المقبلة.
الولايات المتحدة في طريقها نحو مراكمة ديون متزايدة خلال العقود المقبلة. وهناك اهتمام كبير بمدى القلق الذي ينبغي أن يسببه ذلك.
لكن الاهتمام أقل كثيراً بطريقة إدارة الحكومة للمخاطر، وما تفعله لجعل الإنفاق القائم أكثر إنتاجية وكفاءة، سواء من ناحية هيكلة الديون للحدّ من مخاطر حركة الفائدة، وطريقة إدارتها للمخاطر من أجل تجنب معدلات الفائدة المرتفعة في المستقبل.
لا بأس إذن في أن تقلق بشأن ديون البلاد، ولكن اهتم أيضاً بطريقتها في إدارة المخاطر.