ترمب يعلن عن “اتفاق” تجاري بلا مضمون مع المملكة المتحدة

مشهد الرئيس دونالد ترمب وهو يكشف في المكتب البيضاوي عما وصفه بأنه “اتفاق تجاري هائل” مع المملكة المتحدة ذكّرني بالمسلسل الكوميدي الأميركي في التسعينيات “ساينفلد”، الذي كان حرفياً يدور حول اللاشيء.
للتوضيح، ما تم التوصل إليه ليس اتفاقاً، بل إطاراً لاتفاق محتمل. بمعنى آخر، لا يزال أمام المفاوضين الأميركيين والبريطانيين عمل كثير لصياغة التفاصيل خلال الأسابيع المقبلة (وربما أشهر أو حتى سنوات كما هو معتاد في مثل هذه الحالات). أما حالياً، فالفكرة تقوم على تسريع دخول السلع الأميركية إلى المملكة المتحدة عبر الجمارك، وتقليل الحواجز أمام صادرات بقيمة “مليارات الدولارات” من المنتجات الزراعية والكيميائية والطاقة والصناعات المختلفة، بما في ذلك لحوم الأبقار والإيثانول.
الاتفاق لا يحقق أهداف ترمب من الرسوم
الأدهى أن الاتفاق المعلن عنه لم يستوفِ أي من الأهداف الثلاثة التي طرحها ترمب في الأصل قبل يوم “التحرير” في 2 أبريل، الذي شهد فرض رسوم جمركية على شركاء الولايات المتحدة التجاريين.
وللتذكير، الهدف الأول هو استخدام الرسوم الجمركية (التي يتحملها الأميركيون) لزيادة الإيرادات الضريبية من أجل المساعدة في سد عجز الميزانية الفيدرالية، وتمويل تمديد قانون تخفيضات الضرائب والوظائف لعام 2017، الذي من المقرر أن ينتهي العام الجاري. أما الهدف الثاني، فكان إعادة الصناعات التي هجرت الولايات المتحدة إليها وإشعال “عصر ذهبي” جديد لأميركا. والثالث هو تحقيق أهداف تتعلق بالسياسة الخارجية.
لم يُذكر أي من تلك الأهداف الثلاثة في إعلان يوم الخميس. إذاً، ما الجدوى منه؟ خصوصاً بعد أن قلبت الحرب التجارية التي أطلقها ترمب موازين الاقتصاد.
حالة عدم اليقين التي بثّها الرئيس الأميركي شلّت الشركات وأدت إلى انهيار مؤشرات ثقة المستهلكين. وقد بدأت الشركات تُطلق تحذيرات علنية من احتمال خلوّ الأرفف في وقت أقرب مما يُعتقد.
ارتفاع توقعات التضخم
يوم الخميس، أظهر استطلاع شهري يجريه الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك أن توقعات التضخم آخذة في الارتفاع بين الأسر إذ يرون تباطؤاً كبيراً في نمو دخولهم المستقبلية. وهذا بمثابة وصفة مؤكدة للركود التضخمي.
خفض صندوق النقد الدولي تقديراته لنمو الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة العام الجاري بمقدار 0.9 نقطة مئوية، وهو أكبر خفض بين جميع الاقتصادات الكبرى، ما يعكس بوضوح مدى الضرر الذي تلحقه استراتيجية ترمب التجارية بالبلاد.
لا عجب إذاً في أن مؤشر “إم إس سي آي” للأسهم الأميركية قد تراجع بنسبة 4.34% العام الجاري حتى يوم الأربعاء، في حين قفز مؤشر “إم إس سي آي” لجميع بلدان العالم الذي يستثني الأسهم الأميركية بنسبة 9.65%.
الرسوم الجمركية “سياسة رجعية”
قال الملياردير كين غريفين، الرئيس التنفيذي لمجموعة “سيتادل” (Citadel) وأحد كبار المانحين الجمهوريين، خلال مشاركته في “مؤتمر معهد ميلكن” الأسبوع الماضي: “أرى أن الرسوم الجمركية تُعد سياسة رجعية بشدة.. وأعتقد حقاً أنها تتناقض مع الوعد الذي قطعه الرئيس للشعب الأميركي”.
صحيح أن الأسهم الأميركية ارتفعت بنسبة 1.6% يوم الخميس، لكن يعكس ذلك على الأرجح إدراك السوق لمدى ضآلة التنازلات التي ستُضطر الدول لتقديمها لتخفيف تهديدات الرسوم التي يلوّح بها ترمب.
تذمر الأميركيين من سياسة ترمب
وفي الواقع، كما أشارت “بلومبرغ نيوز”، فإن تطورات يوم الخميس تُعد مؤشراً على أن ترمب يبحث عن مخرج من خطته لرفع الرسوم الجمركية الأميركية إلى أعلى مستوياتها خلال قرن من الزمن، وقال “البيت الأبيض” في بيانه: “الإجراء المتخذ اليوم يضع أيضاً الأساس لبقية الشركاء التجاريين من أجل تعزيز التجارة المتبادلة مع الولايات المتحدة”.
المشكلة التي يواجهها ترمب هي أن شركاء أميركا التجاريين أدركوا مدى سرعة تراجعه عن تهديداته التجارية عندما بدأ مزيد من الأميركيين التذمّر من إدارته للاقتصاد، خصوصاً في الوقت الذي يتحدث فيه صراحةً عن ضرورة تحمل الأسر لتضحيات.
شد الأحزمة رسالة فاشلة
قال ترمب خلال اجتماع لمجلس الوزراء في 30 أبريل: “قال لي أحدهم: ‘هل ستكون الأرفف ممتلئة؟’ حسناً، ربما تُتاح دميتان للأطفال بدلاً من 30 دمية، وربما ستكلّف الدميتان بضعة دولارات أكثر من المعتاد”. لكن لم تكن مخاطبة الأميركيين بضرورة شدّ الأحزمة يوماً رسالة رابحة بالنسبة إلى الساسة.
لو أن ترمب التزم بالأهداف الثلاثة التي طرحها في البداية، لكان من الممكن تفهّم كل هذا وربما أصبح الألم الاقتصادي أكثر احتمالاً. لكن ترمب ركّز مؤخراً على قناعته العنيدة بأن العجز التجاري لأميركا يُكلّف البلاد أموالاً، غير أن اقتصاديين، مثل بول كروغمان الحائز على “جائزة نوبل”، أشاروا إلى أن العجز التجاري لا يعني بالضرورة أن التجارة غير عادلة، ولا أن الدولة التي تسجّل عجزاً تخسر أموالاً، بل إن العجز هو الوجه الآخر لتدفق رؤوس أموال ضخمة إلى الولايات المتحدة، وهي تدفقات تسهم في تمويل ديون البلاد وعجز الميزانية.
لكن ترمب يرى الأمر بشكل مختلف. فعندما سُئل الخميس عن تأثير حربه التجارية في توقف السفن التجارية عن الوصول إلى موانئ الساحل الغربي، الأمر الذي قد يتسبب في فقدان عمّال الموانئ وسائقي الشاحنات لوظائفهم، أجاب قائلاً: “جيد”، موضحاً أن ذلك يعني أن الولايات المتحدة لن تخسر أموالاً.
هذا التصريح نفسه يصلح حبكة مثالية لإعادة إنتاج مسلسل “ساينفلد”.