اخر الاخبار

ترمب يشعل فتيل العقوبات: روسيا في الزاوية والهند والصين في مرمى النار

في مشهد أقرب إلى لعبة شطرنج جيوسياسية، الأسبوع الماضي، صعّد الرئيس الأميركي من الضغط على نظيره الروسي فلاديمير بوتين، مهدداً بفرض عقوبات اقتصادية، إذا لم يتم التوصل لهدنة في أوكرانيا.

لم يكن تصريح العقوبات ما فاجأ العالم، بل إشارة ترمب إلى إمكانية فرض “عقوبات ثانوية” قد تطال الدول المستوردة للنفط الروسي. التهديدات لم تكن مجرد كلمات عابرة، بل إنذار مباشر لحلفاء كبار مثل الهند والصين: إما أن تنسحبوا من سوق الطاقة الروسية، أو تدفعوا الثمن.

العقوبات “الثانوية”، المفهوم الذي أشار إليه ترمب لأول مرة بهذا الوضوح، ليست جديدة تماماً، لكنها المرة الأولى التي تُستخدم بهذه الشدة ضد قوى كبرى. الفكرة؟ إذا لم تستطع واشنطن خنق صادرات روسيا مباشرة، فستمنع الآخرين من الشراء.

الهند في مرمى العقوبات 

الهند كانت أول من تلقى الرسالة. الرئيس الأميركي لمح إلى فرض رسوم جمركية تصل إلى 25% على بضائعها، بل وهدد بـ”عقوبات خاصة” على خلفية استمرارها في شراء النفط الروسي. رغم طمأنته لاحقاً أن المفاوضات مستمرة، إلا أن التصعيد ترك أثره على الأسواق، والسياسة، والبورصات.

فعالية العقوبات موضع شك

بيتر تانس رئيس شركة “لينكس للاستشارات الاقتصادية” في واشنطن، اعتبر أن الرسوم “ليست ذات أهمية بسبب محدودية التجارة مع روسيا وخضوعها لعقوبات مسبقة”.

وحتى ترمب نفسه أقرّ ضمناً بضعف فعالية هذه العقوبات، إذ أعرب عن عدم ثقته في أن العقوبات الاقتصادية قد “تؤثر في روسيا”، مضيفاً: “سنفرض عقوبات وأمور أخرى عدة، قد تؤثر بهم وقد لا تؤثر”.

ولكن تانس تابع في مقابلة مع “الشرق” أن العقوبات الثانوية تمثل “إشكالية”، لأنها ستسبب “استياءً لدى عدة دول وأطراف، غالبيتها حلفاء وشركاء للولايات المتحدة”.

ليست سابقة ضد روسيا

رغم الصدمة التي أحدثتها تصريحات ترمب، إلا أن تيري هاينز مؤسس شركة “بانجيا للاستشارات” في واشنطن لا يعتبر أن فرض عقوبات ثانوية يعد سابقة.

ورأى في مقابلة لـ”الشرق” أن العقوبات الثانوية استُخدمت سابقاً ضد إيران (68% من إجمالي العقوبات)، بينما شكّلت 5% فقط من العقوبات ضد روسيا، وتركزت على التحايل على العقوبات. وأضاف أن آليات التنفيذ تشمل وقف إصدار تراخيص، أو إدراج كيانات على القوائم السوداء، لكنها تبقى محدودة الفاعلية نظراً لطبيعة الدول المستوردة للخام الروسي.

صادرات نفط روسية ضخمة

بلغ متوسط صادرات روسيا من النفط الخام المنقول بحراً بلغ 3.22 مليون برميل يومياً خلال الأسابيع الأربعة المنتهية في 27 يوليو، وفق بيانات “بلومبرغ”.

وأظهرت البيانات أن السفن المتجهة إلى الهند حملت في تلك الفترة ما معدله 1.28 مليون برميل يومياً، بينما بلغ متوسط الشحنات المرسلة إلى الصين 1.07 مليون برميل يومياً.

كما شملت الأرقام نحو 510 آلاف برميل يومياً حملت على متن ناقلات لم تحدد وجهتها النهائية بوضوح، في حين وصلت التدفقات إلى تركيا إلى 280 ألف برميل يومياً، وإلى سوريا 70 ألف برميل يومياً.

أما صادرات الغاز، فالوضع أكثر تعقيداً. فحتى العام الماضي، شكل الغاز الروسي (سواء المُرسل عبر الأنابيب أو على هيئة غاز طبيعي مسال) 18.9% من إجمالي واردات الاتحاد الأوروبي، وفقاً لبيانات المفوضية الأوروبية.

حصة الصين والهند من النفط الروسي 

وأشار أسامة رزفي، محلل شؤون الاقتصاد والطاقة لدى شركة “برايمري فيجن”، إلى أن الصين استحوذت في يونيو على 38% من صادرات روسيا إلى أكبر خمسة مستوردين، لافتاً إلى أن النفط الخام شكل 64% من واردات الصين من روسيا، و80% من واردات الهند. 

مخاوف بشأن الأسعار

هذه الأرقام تؤكد أن التطبيق الحازم لهذه السياسة من شأنه أن يضغط على الأسواق، وبالتالي على الأسعار. منذ 28 يوليو وحتى سعر إغلاق الخميس، ارتفعت أسعار النفط بنحو 4%.

عندما سُئل الرئيس الأميركي عما إذا كان قلقاً بشأن تأثير العقوبات الإضافية على روسيا على سوق النفط، أجاب بالنفي، وألمح إلى أن الولايات المتحدة قد تزيد إنتاجها من الطاقة. وقال: “لا أقلق بشأن ذلك. لدينا وفرة كبيرة من النفط في بلادنا. سنزيد الإنتاج أكثر”.

رغم ذلك، فهناك شكوك كبيرة في السوق بشأن إمكانية تعويض هذا الحجم الضخم، خصوصاً وسط مؤشرات على وصول إنتاج النفط الأميركي إلى ذروته.

كيف تتأثر الصين ومفاوضات التجارة؟

يرى رزفي أن تصريحات ترمب أقرب إلى “استعراض سياسي مع تراجع شعبيته”، لافتاً إلى أن نظام تدفقات الطاقة الحالي “يتكيف” مع التطورات السياسية المتسارعة.

وأضاف أن الصين لا تقوم فقط ببناء مخزوناتها بمعدل يزيد عن مليون برميل يومياً للشهر الرابع هذا العام، بل تعمد إلى تنويع لائحة مورديها، معتبراً أنها تستورد 40% من صادرات النفط البرازيلية.

ولكن فرض عقوبات على أفراد أو شركات صينية، قد يكون له نتائج أخرى سلبية. فالولايات المتحدة منخرطة بمفاوضات تجارية مع بكين بهدف التوصل لاتفاق تجاري، في ظل حرص واشنطن على تفادي ما يهدد مفاوضاتها مع بكين.

ظهرت هذه التوترات بعد تحذير وزير الخزانة سكوت بيسنت الثلاثاء الماضي، من أن استمرار شراء الصين للنفط الروسي قد يؤدي إلى فرض رسوم “ضخمة” على البلاد.

ردت بكين سريعاً الأربعاء، إذ قالت المتحدثة باسم الخارجية جينا كون إن البلاد تتخذ “إجراءات معقولة لأمن الطاقة تستند إلى مصالحها الوطنية”، مضيفة أن “الإكراه والضغط لن يحلا المشاكل”. 

ترى رئيسة شركة “سكاراب رايزينغ” المتخصصة بتقديم الاستشارات الاستراتيجية إيرينا تسوكرمان، أن دولاً مثل الصين والهند قد تقاوم مثل هذه الإجراءات، عبر “تعزيز علاقاتها مع أنظمة مالية بديلة أو زيادة تجارتها الثنائية بعيداً عن الرقابة الأميركية”.

أما من ناحية مفاوضات الاتفاقات التجارية، فإن تأثير هذه الإجراءات سيكون عميقاً. إذ اعتبرت تسوكرمان في مقابلة مع “الشرق”، أن “المفاوضات التجارية تهدف إلى تقليل الرسوم الجمركية وتسهيل التجارة، لكن استخدامها كأداة عقابية يقوض هذا التوجه، وقد يعطل المفاوضات الجارية، أو يُجهض فرص التوصل إلى اتفاقات جديدة، مع سعي الدول المتأثرة إلى حماية مصالحها الاقتصادية”.

كيف تتأثر الهند؟

بدأت الهند تشعر فعلياً بلهيب العقوبات، خصوصاً بعدما أعلن الاتحاد الأوروبي عزمه حظر واردات الديزل المُنتَج في البلاد باستخدام الخام الروسي. وجاءت تصريحات ترمب لتفاقم الأزمة.

اقرأ أيضاً: خفضت سقف أسعار النفط.. أوروبا تقر حزمة عقوبات غير مسبوقة ضد روسيا

وترزح شركات التكرير في الهند تحت ضغوط متزايدة، ما يدفعها للبحث عن إمدادات نفطية من مصادر بديلة. وحتى قبل إعلان ترمب، كانت شركات التكرير المملوكة للدولة بدأت بإصدار مناقصات شراء لمواعيد تسليم عاجلة على نحو غير معتاد.

بالإضافة لذلك، تخلف أداء المؤشر الرئيسي للأسهم الهندية عن معظم نظرائه في العالم هذا العام وسط مخاوف من تباطؤ الاقتصاد المحلي وتراجع أرباح الشركات، تحت ضغط من ترمب ورسومه.

وازدادت حدة هذا التراجع خلال يوليو. ومنذ أن سجلت سوق الأسهم الهندية مستوى قياسياً في 2 يوليو، فقدت نحو 248 مليار دولار من قيمتها.

كيف تتأثر روسيا؟

رغم أكثر من 20 ألف عقوبة مفروضة عليها منذ 2012، لا تزال روسيا تبيع النفط وتبني أسطول ناقلات “شبح” يشق البحار بلا وجهة معلنة.

أسامة رزفي يرى أن العقوبات الجديدة لن تكون مختلفة عن سابقتها، بل قد تدفع روسيا إلى زيادة الصادرات لتعويض الانخفاض في الأسعار.

اقرأ أيضاً: تزايد المتاعب الاقتصادية في روسيا يمهد لخفض أعمق في الفائدة

لكن ماركو مسعد زميل باحث في “مجلس سياسة الشرق الأوسط” بواشنطن، يرى أن ترمب لا يريد الوصول إلى مرحلة فرض عقوبات على روسيا، لأن ذلك سيكون بمثابة “فشل لمفاوضات وقف الحرب في أوكرانيا”، في وقت أكد خلال حملته الانتخابية على أنه قادر على وقف الحرب لحظة دخوله البيت الأبيض. 

ورأى أن تصريحات ترمب تترجم بصفتها “ممارسة ضغط” على بوتين لوقف الحرب، معرباً عن اعتقاده بأن الطرفين يريدان وقف الحرب، ولكن بوتين يريد تحقيق أهداف حربه المعلنة، ولن يخيفه هذه التهديدات.

لطالما أكد الكرملين على أن روسيا تريد اعترافاً بالأراضي التي ضمتها من أوكرانيا (لوغانسك، ودونيتسك، وزاباروجيا، وخيرسون)، بالإضافة إلى ضمانات بعدم دخول أوكرانيا إلى حلف “الناتو”.

موسكو ترفض تغيير مسارها 

ولمح الكرملين إلى هذا الأمر، إذ قال إنه “أحيط علماً” بتهديدات ترمب، موضحاً أن الرئيس الروسي من غير المرجح أن يغير مساره. وأضاف أن روسيا تواصل الحرب، لكنها ملتزمة أيضاً بحلّ النزاع “وضمان مصالحنا خلال مسار التسوية”.

اقرأ أيضاً: بنوك روسيا الكبرى تشعر بالخوف من أزمة سيولة وشيكة

من جهته، لفت ناتس أيضاً إلى أن ترمب كان ناجحاً جداً في تأمين صفقات، ولكن العلاقة مع روسيا أمر آخر، معتبراً أن القادة في روسيا لا يستجيبون للتهديدات.

والحال، أن التصريحات التي أطلقها ترمب قد تكون بهدف الضغط على روسيا، إلا أن مسار السوق ورد فعلها على التصريحات، يوحي بأنها تسعر العقوبات بوصفها وسيلة ضغط على حلفاء روسيا لاستخدام نفوذهم لوقف الحرب في أوكرانيا، وتحقيق وعود ترمب الانتخابية، أكثر من تهديد فعلي قابل للتنفيذ، وهو ما اتفق معه هاينز.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *