تراجع الخصوبة.. السعودية تسير ديموغرافيا على مسار الدول الصناعية

يشهد اقتصاد السعودية منذ الإعلان عن “رؤية 2030” تسارعاً ملحوظاً في وتيرة النمو والتحول الهيكلي، ما انعكس في عدد من المؤشرات الاقتصادية. غير أن هذا المسار التنموي ترافق مع تحولات ديمغرافية واجتماعية قد تشكل تحدياً أمام المستقبل الاقتصادي للمملكة.
أظهر تقرير “الاقتصاد السكاني في السعودية: الشيخوخة السكانية وعوامل انخفاض معدلات الخصوبة”، الصادر عن “مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية”، انخفاض معدلات الإنجاب بشكل واضح في المملكة من 7.2 طفل لكل امرأة عام 1980، إلى 2.1 طفل في 2022، وهو مستوى الإحلال السكاني.
لا تبدو هذه الأرقام مفاجئة في اقتصاد تضاعف حجمه أكثر من 7 مرات خلال هذه الفترة، من 164.5 مليار دولار عام 1980 إلى 1.23 تريليون دولار عام 2022 حسب البنك الدولي. فعلى المنوال ذاته، هبط معدل الإنجاب في إيرلندا التي كانت في 1980 الأعلى خصوبة في الدول الأوروبية المتقدمة من 3.2 طفل لكل امرأة، إلى 1.54 طفل في 2022، وفق بيانات “يوروستات”.
رد التقرير الانخفاض في معدلات الإنجاب في المملكة إلى أسباب عدة، من أبرزها انتقال السكان إلى المناطق الحضرية، والحوافز الاقتصادية، والاعتبارات المالية، ودور المرأة المتغير في الاقتصاد والمجتمع.
التحضر وتغير السلوك الإنجابي عبر الأجيال
شهدت نسبة السكان المقيمين في المدن ارتفاعاً ملحوظاً من 31% عام 1960، إلى أكثر من 83% في 2023، وفقاً للتقرير.
وفي الوقت ذاته، لاحظ التقرير أن معدلات الخصوبة لم تنخفض بالسرعة ذاتها، إذ نزل المعدل بين عامي 1960 و1990 من 7.6 طفل لكل امرأة إلى 5.8 طفل.
برر التقرير عدم تعمق معدلات انخفاض الخصوبة في المراحل الأولى من التحضر بأن الأجيال التي هاجرت إلى المدن لم تُظهر تراجعاً فورياً في معدلات الإنجاب، في حين أظهرت الأجيال اللاحقة التي نشأت في البيئات الحضرية تغيرات واضحة في السلوك الإنجابي.
يعزى ذلك إلى الاعتياد على ارتفاع أسعار السكن، ونظم التعليم الحديثة، وضيق مساحات السكن، والمنافسة الشديدة في أسواق العمل، وما يرافق ذلك من تركيز متزايد على الاستثمار في اكتساب المهارات المهنية.
وتجلّى هذا التحول بوضوح في الفجوة بين المناطق الحضرية الأعلى إنتاجاً اقتصادياً، مثل المنطقة الشرقية والرياض ومكة المكرمة، التي سجلت معدلات خصوبة تراوحت بين 2.5 و2.9 طفل لكل امرأة، وبين المناطق الزراعية مثل الجوف والحدود الشمالية ونجران، التي احتفظت بمعدلات خصوبة أعلى تراوحت بين 3.8 و4.4 طفل.
رأس المال البشري ومفاضلة “الكم مقابل الكيف”
لفت التقرير إلى أن المناطق الحضرية والمتقدمة التي تتسم بكبر حجم السوق فيها، تشهد اهتماماً بالاستثمار في رأس المال البشري، مثل التعليم النوعي وبناء المهارات، ما “يعيد تشكيل نظرة الأسر لقرارات الإنجاب”، ويؤدي إلى ما يعرف بـ”مفاضلة الكم مقابل الكيف”، وهي سمة أساسية في الاقتصادات المتقدمة.
تعني هذه السمة أن سكان المناطق الحضرية يفاضلون بين إنجاب عدد أقل من الأطفال مع استثمار أعلى في تعليمهم وتطويرهم لسوق العمل، أو إنجاب عدد أكبر من الأطفال مع تقليل الموارد المخصصة لكل منهم، ما قد يؤثر على فرصهم مستقبلاً.
اقرأ أيضاً: “فرصة بالمليارات”.. عمل المرأة قد يرفع اقتصاد الشرق الأوسط 30%
وفي المجتمعات الحضرية، تؤثر عدة عوامل مالية وثقافية في قرارات الزواج والإنجاب، من بينها ارتفاع تكاليف السكن والتعليم، وتزايد متطلبات الاستقرار الوظيفي قبل الزواج. في وقت أن المملكة تتميز بخصائص فريدة مقارنة بالدول المتقدمة، مستمدة من مجتمعها، على غرار الأعباء الاجتماعية المرتبطة بالمهر وحفلات الزواج.
وقد أسهمت هذه العوامل في تأخير سن الزواج وارتفاع معدلات العزوف عنه نسبياً، وهو ما انعكس بدوره على معدلات الخصوبة، إلى جانب الارتفاع اللافت في معدلات الطلاق خلال العقد الأخير.
تحولات دور المرأة وارتفاع تكلفة “الفرصة البديلة”
تغيّر دور المرأة في الاقتصاد أحد المحركات الهيكلية طويلة الأجل التي تؤدي إلى انخفاض معدلات الإنجاب، سواء في المملكة أو في الاقتصادات المتطورة الأخرى.
اقرأ أيضاً: مليارديرة سعودية تراهن على سيدات أعمال المنطقة بملايين الدولارات
وتركز “رؤية 2030” على زيادة مساهمة المرأة في الاقتصاد والمجتمع، وأجرت المملكة العديد من الإصلاحات ونفذت مبادرات عدة، لزيادة نسب مشاركتها.
فعلى سبيل المثال، انخفضت نسبة بطالة النساء السعوديات من 21.7% في الربع الأول من عام 2019 إلى 11.3% في الربع الثاني من 2025، حسب بيانات الهيئة العامة للإحصاء.
كما تظهر البيانات أن المرأة السعودية أصبحت أكثر قدرة على الاستفادة من الفرص المتاحة في مجالات متعددة، مثل الأعمال والرياضة والترفيه. وقد شكّلت النساء نسبة 45% من إجمالي الشركات الصغيرة والمتوسطة المسجلة بأسمائهن خلال الربع الثالث من عام 2024، فيما بلغت نسبة الشركات المملوكة لهن 46.8% من إجمالي الشركات الصغيرة والمتوسطة في المملكة.
كما شكل قطاعي الرياضة والترفيه أبرز مسارات التحول في دور المرأة السعودية خلال السنوات الأخيرة، حيث رافقت الإصلاحات القانونية والاجتماعية خطوات عملية وسريعة لدمج النساء في هذه المجالات. فمنذ عام 2019، سُمح للنساء بحضور المباريات الرياضية، ثم أُطلق في عام 2022 أول دوري سعودي لكرة القدم للسيدات، في تحول يعكس اتساع المشاركة النسائية في المجال الرياضي.
كما أسهمت هذه التطورات في ترسيخ نماذج مهنية واجتماعية جديدة للنساء، لا سيما الشابات، وعززت حضور المرأة في الأنشطة الترفيهية والسياحية بوصفها مجالات عمل ومشاركة مجتمعية، بعد أن كانت محدودة أو غير متاحة في العقود السابقة.
اقرأ أيضاً: سيدات أعمال سعوديات يتألقن في اقتصاد حجمه تريليون دولار
ومع اتساع مُشاركة المرأة السعودية في سوق العمل، وانخفاض معدلات بطالتهن، وازدياد حضورهن في ريادة الأعمال والقطاعات الجديدة، ارتفعت “تكلفة الفرصة البديلة” للإنجاب، التي تؤدي إلى تأخير الزواج أو اتخاذ قرار بإنجاب عدد أقل من الأطفال.
انخفاض الخصوبة بين التحول الطبيعي وتحديات التكيّف
لا ينظر التقرير إلى انخفاض معدلات الخصوبة في السعودية بوصفه ظاهرة سلبية بحد ذاتها، بل كنتاج طبيعي لمسار التنمية الاقتصادية والتحول الاجتماعي.
ويشير إلى أن مواصلة المملكة مسارها نحو التنمية الاقتصادية قد يوصل معدلات الخصوبة لتسجيل مستويات مماثلة لتلك التي تشهدها الدول المتقدمة.
غير أن مصدر القلق يكمن في سرعة هذا التحول، إذ قد يؤدي على المدى المتوسط والطويل إلى اختلال في الهرم السكاني، وتراجع أعداد الداخلين الجدد إلى سوق العمل، وزيادة الضغط على أنظمة التقاعد والرعاية الصحية مع تقدم السكان في العمر، خصوصاً إذا لم يتمكن القطاع الصحي من النمو بالحجم المطلوب لهذا التحول.
اقرأ أيضاً: السعوديات يدفعن البطالة بين مواطني المملكة لأدنى مستوى عند 6.3%
ويخلص التقرير إلى أن التحول الديمغرافي في السعودية قد يتطلب رفع كفاءة رأس المال البشري، والتأكد من أن سوق العمل وأنظمة الحماية الاجتماعية تتكيف مع مجتمع يتجه نحو الشيخوخة، بما يحفظ الاستقرار الاقتصادي والرفاه الاجتماعي حتى مع انخفاض معدلات الولادة.
كما يدعو إلى توفير حوافز اجتماعية واقتصادية للإنجاب، وتقليل العقبات أمام هذه الخطوة من خلال توفير خدمات رعاية الأطفال وسياسيات إجازة الأمومة وتدابير داعمة أخرى.



