تراجع الإقراض في الصين يعمق المخاوف من تباطؤ النمو

سجلت الصين أول انكماش في القروض القائمة منذ عام 2005، ما عزز المخاوف من تفاقم التباطؤ في ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
وبدلاً من ضخ السيولة في الاستثمارات، اتجهت الأسر والشركات إلى سداد الديون وسط رؤية أكثر تشاؤماً لآفاقها المستقبلية، ما ينذر بدخول الاقتصاد الصيني في حلقة مفرغة من الأداء الضعيف.
كما أن أطول فترة انكماش اقتصادي منذ التسعينيات على الأقل تكبح الطلب على الاقتراض، وهو ما أدى الشهر الماضي إلى تراجع القروض الموجهة للاقتصاد الحقيقي بنحو 430 مليار يوان (60 مليار دولار)، في أكبر انخفاض مسجل منذ عام 2002.
قال لين سونغ، كبير الاقتصاديين للصين الكبرى في بنك “آي إن جي” (ING Bank NV)، إن “تراجع الطلب على القروض يعد مؤشراً سلبياً للنمو المستقبلي، وأكثر ما يقلقني هو حالة التشاؤم العميقة التي تُعد السبب الرئيسي وراء ضعف شهية المستهلكين والشركات للاقتراض”.
معضلة تحفيز الطلب المحلي
من المقرر أن يُحدد تدفق الائتمان وتيرة نمو الاقتصاد لسنوات قادمة. وبالنسبة لبكين، يكمن التحدي الآن في كيفية إنعاش الطلب المحلي المتعثر الذي يهدد بإبطاء النمو على المدى الطويل، خاصة في ظل الحواجز التجارية الخارجية التي تشكل خطراً على محرك الصادرات الصيني.
اقرأ أيضاً: اقتصاد الصين يتباطأ في يوليو مع تراجع الإنتاج والمبيعات
ورغم الانخفاض المفاجئ في حجم القروض، لم تتأثر أسواق السندات والأسهم الصينية بشكل ملحوظ، إذ أنهى مؤشر “سي إس آي 300” (CSI 300) تعاملات الخميس دون تغير يُذكر، بعد أن سجل المؤشر القياسي للأسهم المحلية ارتفاعاً في الأشهر الأخيرة بفضل وفرة السيولة.
مع ذلك، يقف صناع السياسات أمام معادلة معقدة، حيث يسعون الاستجابة لدعوة حكومة الرئيس شي جين بينغ لمواجهة حروب الأسعار وتقليص المنافسة المفرطة دون التسبب في فقدان واسع للوظائف أو تقويض ثقة المستهلكين الذين يرغبون في إنفاق المزيد.
هذا الأمر قد يكون شاقاً، إذ ذكرت وسائل الإعلام الرسمية عقب صدور بيانات الائتمان يوم الأربعاء أن جهود كبح مشكلة فائض الطاقة الإنتاجية في الصين قد يكون لها تأثير سلبي على الطلب على القروض.
تأثير تراجع العقارات ودعم المستهلكين
كانت هناك عوامل أخرى مؤثرة أيضاً. فقد تدهور سوق العقارات، فيما تباطأت برامج دعم المستهلكين مؤقتاً، ما انعكس سلباً على القروض الموجهة للأسر. كما دفعت حروب الأسعار العنيفة وتهديدات الرسوم الجمركية الأميركية الشركات إلى تقليص وتيرة اقتراضها.
وكان النمو الوحيد في يوليو مصدره تمويل الأوراق التجارية، وهي أداة تلجأ إليها البنوك لرفع حجم الإقراض عند ضعف الطلب على الاقتراض.
اقرأ أيضاً: أزمة عقارات الصين تضغط على سعر الحديد مجدداً
قالت سيرينا تشو، كبيرة الاقتصاديين الصينين بشركة “ميزوهو سيكيوريتيز آسيا” (Mizuho Securities Asia Ltd)، إنه قد يكون من السابق لأوانه دق ناقوس الخطر بشأن ركود في الميزانية العمومية على غرار ما شهدته اليابان، لكن “نحن قلقون بشأن ضعف سوق العقارات مجدداً”.
من المرجح أن تجد بكين صعوبة في تحفيز الطلب دون استقرار سوق العقارات، التي تمثل نحو 60% من ثروة الأسر، وفقاً لمسح أجراه البنك المركزي عام 2019.
ويواصل قطاع الإسكان تراجعه للعام الرابع على التوالي، وسط توقعات بعدم بلوغه القاع قبل منتصف أو أواخر عام 2026.
وأضافت تشو: “في حال حدوث تراجع مزدوج في قطاع العقارات، فإن الأثر السلبي على الثروة سيشكل عبئاً أكبر على ثقة المستهلكين، ما يعني أن جهود الحكومة لدعم الاستهلاك” ستكون بلا جدوى.
رأي “بلومبرغ إيكونوميكس”:
يقول المحلل ديفيد كو: “التوسع الائتماني المفاجئ في الصين خلال يوليو، والذي جاء أضعف من المتوقع، يكشف عن هشاشة الثقة في ظل حالة عدم اليقين التي تفرضها الحرب التجارية، رغم تنفيذ سلسلة من إجراءات التحفيز الحكومية. ونعتقد أن بيانات الائتمان الصادرة يوم الأربعاء ستدفع بنك الشعب الصيني إلى تسريع وتيرة التيسير النقدي”.
ضعف النمو الائتماني
يشهد نمو الائتمان في الصين تراجعاً منذ عام 2022، ولم تتمكن حتى تخفيضات أسعار الفائدة التي أجراها البنك المركزي من وقف تباطؤ الإقراض.
ورغم القفزة الكبيرة التي سجلتها القروض الصناعية بعد جائحة كورونا، فإن تراجعها في الأشهر الأخيرة يؤكد أن آلة التصنيع العملاقة في الصين ليست بمنأى عن ضعف الإقبال على الاقتراض.
مع تفاقم الانكماش الاقتصادي، تزداد تشاؤمية توقعات الأسر والشركات بشأن الدخل والأرباح المستقبلية. ويكمن الخطر في أنه ما لم يتم إيجاد حل سريع لإنعاش الاقتصاد، فقد تحذو الصين حذو اليابان وتجد نفسها عالقة في عقود من الانكماش والنمو البطيء.
وزادت بيانات يوليو قتامة بفعل جهود الحكومات المحلية لتسوية الديون الخفية عبر بيع السندات لسداد القروض، وهو ما قد يكون قلص من حجم الائتمان المصرفي.
كما لفتت صحيفة “فاينانشيال نيوز”، المدموعة من بنك الشعب الصيني، إلى أن الحملة الهادفة لضمان سداد الشركات الكبرى مستحقات مورديها الصغار في الوقت المحدد قد تكون سبباً محتملاً في ضعف طلب الشركات على الاقتراض.
وفي مؤشر إيجابي لسوق الأسهم، اتجه العديد من الأفراد إلى تحويل أموالهم من البنوك إلى شركات الوساطة، وصناديق الاستثمار المشتركة، وشركات الاستثمار، مستفيدين من انتعاش الأسهم المحلية. وفي المقابل، تراجعت ودائع الأسر الشهر الماضي، بينما سجلت الودائع لدى المؤسسات المالية غير المصرفية أكبر ارتفاع لها منذ فبراير.
تحول في سياسة دعم الائتمان
في نهاية المطاف، ومع مساعي صناع السياسات للحد من القروض غير المجدية التي تغذي فائض الطاقة الإنتاجية، تهدد الآثار الجانبية الاقتصادية بحدوث تراجع حاد في الطلب نتيجة قيود الإنتاج.
ينبغي على السلطات أيضاً مواجهة مقاومة الحكومات المحلية والبنوك، التي تمتلك أسباباً عديدة للإبقاء على الشركات غير المربحة، وحتى ما يُعرف بـ”شركات الزومبي”، قائمة، حفاظاً على الوظائف وتفادي تسجيل خسائر في ميزانياتها.
ولهذا السبب، اتخذ بنك الشعب الصيني نهجاً أكثر دقة في تقديم الدعم الائتماني، وفقاً لما قاله شينغ تشاوبينغ، كبير الاستراتيجيين الصينيين في مجموعة “أستراليا آند نيوزيلاند بانكنغ غروب” (Australia & New Zealand Banking Group).
وأضاف أن البنك المركزي سيولي اهتماماً متزايداً لخمسة قطاعات يعتبرها كبار المسؤولين مهمة، بما فيها التكنولوجيا والصناعات الخضراء، مبتعداً عن سياسة التحفيز الشامل الذي كان يشمل الاقتصاد بأكمله في الماضي.
وأوضح شينغ أن الدعم الائتماني “سيتراجع في بعض القطاعات ويتوسع في أخرى، وسيكون التراجع في الأولى كبيراً.. وستكون معظم هذه القطاعات هي الصناعات ذات الطاقة الإنتاجية الفائضة”.