تحول جديد في رؤية ترمب الاقتصادية: “لا مكاسب بدون ألم”

قامت حملة الرئيس الأميركي دونالد ترمب الانتخابية على وعد بمعالجة ما وصفه بالاقتصاد الأميركي المتعثر. وبعد مرور أكثر من شهر بقليل على ولايته الثانية، بدأ يشير إلى أن العلاج قد يكون مؤلماً.
لا تزال إدارته تغدق على الأميركيين بوعود بعصر ذهبي قادم. ومع ذلك، شهد الأسبوع الماضي سلسلة من التطورات السريعة من فرض التعريفات الجمركية ثم التراجع عنها، ما أثار حرباً تجارية عالمية وانخفاضاً حاداً في سوق الأسهم، وأدى إلى تغير النبرة قليلاً.
“سيكون هناك بعض الاضطراب، لكن لا بأس في ذلك”، قال ترمب للكونغرس يوم الثلاثاء، مدافعاً عن خططه لإقامة حاجز حمائي حول الولايات المتحدة من خلال أكبر زيادة في الرسوم الجمركية منذ ما يقرب من قرن. وبحلول يوم الجمعة، كان وزير الخزانة، سكوت بيسنت، يجادل بأن أكبر اقتصاد في العالم بحاجة إلى “إزالة السموم” للتخلص من اعتماده على الإنفاق العام.
التضخم والأسواق المالية
بينما يمضي ترمب قدماً في أجندته، فإنه يواجه بعض الحقائق القاسية التي لم تكن تبدو مقلقة قبل فترة قصيرة. فلن يكون كبح التضخم أمراً سهلاً، لا سيما وأن الرئيس مصمم على فرض تعريفات جمركية جديدة حتى في الوقت الذي يتراجع فيه عن بعضها. يشعر المستهلكون والمستثمرون بالقلق، ويبدو أن الاقتصاد معرض لخطر التباطؤ.
الرئيس، الذي كان يقيس أداءه سابقاً بسوق الأسهم، أصبح الآن يتجاهل هذه المخاوف. فقبل ساعات من خطابه أمام الكونغرس، سجل مؤشر “إس آند بي 500” أدنى مستوى له منذ الانتخابات، حيث تحولت تهديدات ترمب بحروب تجارية مع كندا والمكسيك إلى واقع. وأغلق المؤشر على انخفاض أكبر يوم الجمعة. كما انخفضت سندات الخزانة خلال الأسبوع، رغم أن تراجع أسعار النفط –الذي يحمل بارقة أمل في انخفاض أسعار البنزين– كان نقطة مضيئة.
ترمب: ألم مبرر لإعادة التصنيع إلى أميركا
رسالة ترمب هي أن أي ألم قصير الأجل سيكون مبرراً لإعادة التصنيع إلى الداخل الأميركي. وقال من البيت الأبيض يوم الخميس: “لست أنظر حتى إلى السوق، لأن الولايات المتحدة ستكون قوية جداً على المدى الطويل بما يحدث هنا”.
وقال إي جيه أنتوني، الباحث في “هيريتدج فاونديشن” (Heritage Foundation) المحافظة: “سيتطلب الأمر فترة تعديل لوول ستريت”، مضيفاً: “لن يسقط السقف علينا لمجرد أننا نفرض تعريفات جمركية”.
وصرح بيسنت في وقت سابق من الأسبوع بأن تركيز الإدارة ليس على وول ستريت، بل على الاقتصاد الحقيقي. هناك، قدم التقرير الاقتصادي الأبرز للأسبوع –تقرير الوظائف الصادر يوم الجمعة– صورة مختلطة. فقد زادت الوظائف بمقدار 151 ألف وظيفة، وهو رقم جيد ولكنه أقل من التوقعات، بينما ارتفع معدل البطالة إلى 4.1%.
وأشار ترمب، الذي منح إيلون ماسك صلاحيات اقتراح خفض الوظائف في البيروقراطية الفيدرالية، إلى ارتفاع التوظيف في المصانع في تقرير فبراير. وقال الرئيس: “سوق العمل ستكون رائعةً، لكنها ستوفر وظائف تصنيع ذات رواتب عالية بدلاً من الوظائف الحكومية”.
مخاوف الشركات والتوترات التجارية
من جانبه، قال كيفن هاسيت، مدير المجلس الاقتصادي الوطني في البيت الأبيض، إن الخطوات التالية في برنامج الإدارة الاقتصادي ستعزز المكاسب. وأضاف في حديثه مع تلفزيون “بلومبرغ” يوم الجمعة: “علينا تمرير التخفيضات الضريبية والمضي قدماً في إزالة القيود التنظيمية”، مؤكداً أن الإدارة “ستقلل من التوظيف في الحكومة والإنفاق العام، مع زيادة التوظيف في قطاع التصنيع”.
ومع ذلك، هناك العديد من الإشارات على أن الشركات الأميركية، بدءاً من الشركات الصغيرة ووصولاً إلى العمالقة مثل “فورد موتور”، تشعر بالقلق إزاء الحرب التجارية. ومن المتوقع أن تتصاعد الأزمة إذا ما رد الشركاء التجاريون بفرض رسوم جمركية مضادة، وهو ما يهدد الصادرات الأميركية. وقد لا يشجع تصاعد حالة عدم اليقين على التوظيف أو الاستثمار.
في البداية، تعهد ترمب بفرض تعريفات جمركية على كندا والمكسيك والصين في فبراير، لكنه أرجأ الرسوم على الجارتين الشماليتين. هذا الأسبوع، سمح بانتهاء المهلة وفرض 25% رسوماً جمركية على كندا والمكسيك، قبل أن يسارع إلى تقديم إعفاءات، أولاً لصناعة السيارات، ثم لجميع المعاملات التجارية التي تتم في إطار اتفاقية “يو إس إم سي إيه” (USMCA) التي تفاوض عليها خلال ولايته الأولى. كما قام ترمب بمضاعفة نسبة الرسوم الجمركية على الصين إلى 20%.
ضربات جديدة من إجراءات قادمة
تواجه بعض الصناعات تحولاً أكبر من صناعة السيارات، وجاءت مهلة إعادة ترتيب سلاسل التوريد في أميركا الشمالية بعد أن ناشد رؤساء الشركات الثلاث الكبرى لصناعة السيارات ترمب. لكنه منحهم شهراً واحداً فقط لإعادة هيكلة سلاسل الإمداد التي استغرقت سنوات في بنائها. علاوة على ذلك، حذر ترمب من أن أي تأخير إضافي غير وارد، على الرغم من أن شركات السيارات على وشك أن تتلقى ضربات جديدة من إجراءات أخرى قادمة.
يسعى مساعدو ترمب إلى تقليل التوقعات بشأن الإعفاءات. وقال كيفن هاسيت للصحفيين يوم الجمعة: “هو لا يحب كلمة إعفاء حقاً”. وأضاف: “إذا دخلت عليه بمقترح إعفاء، فيحتمل أن يتم طردي من المكتب. سنرى كيف ستسير الأمور”.
التحدي القادم أمام شركات السيارات وغيرها من الصناعات هو فرض 25% من الرسوم الجمركية على الصلب والألمنيوم، المقرر أن يبدأ في 12 مارس، ما سيؤدي إلى اضطراب سلاسل التوريد مجدداً.
أما في أبريل، فمن المتوقع أن تدخل حيز التنفيذ الإجراءات الأكثر شمولًا، ومن بينها “التعريفات المتبادلة”، التي ستفرضها الولايات المتحدة على جميع الدول بنسبة تعادل العوائق التجارية التي تفرضها تلك الدول على الصادرات الأميركية. بالإضافة إلى ذلك، ستستهدف بعض التعريفات منتجات معينة، مثل السيارات وأشباه الموصلات والأخشاب والنحاس.
النهب الكبير لأميركا
يرى البعض أن حملة ترمب التجارية المحمومة قد تكون وسيلة لتشتيت انتباه الأميركيين عن سياسات أخرى تصب في مصلحة الأثرياء بشكل غير متناسب، وفقاً لما قالته هيذر بوشي، التي عملت في إدارة بايدن بمجلس المستشارين الاقتصاديين. وأشارت إلى جهود الجمهوريين لتجديد التخفيضات الضريبية وتقليص الوظائف والإنفاق في الوكالات الحكومية.
وقالت بوشي: “إنها فوضى محضة، وأخشى كل يوم أن تكون هذه الفوضى تهدف إلى تشتيتنا عن النهب الكبير لأميركا”. وأضافت: “لديهم خطة واضحة جداً ستتطلب تقليص الدعم لبرنامج (ميديكيد) وبرامج أخرى بالغة الأهمية”.
إلى جانب تخفيض الإنفاق، يبحث ترمب عن مصادر جديدة للإيرادات لتعويض التخفيضات الضريبية، وتُعد الرسوم الجمركية جزءاً من الخطة. “يؤمن الرئيس بأنه إذا تمكنا من استبدال إيرادات ضريبة الدخل بإيرادات الرسوم الجمركية، فسيكون الجميع في وضع أفضل”، وفق هاسيت.
كل هذا يمهد الطريق لجولة أخرى من المواجهة خلال شهر، ستختبر مدى استعداد المستهلكين والشركات والمستثمرين لخوض حرب تجارية أكثر شمولاً.
مسار أسعار الفائدة
أظهر استطلاع هاريس الذي أُجري لصالح “بلومبرغ” الشهر الماضي أن ما يقرب من 60% من البالغين الأميركيين يتوقعون أن تؤدي تعريفات ترمب إلى ارتفاع الأسعار، بينما يعتقد 44% أنها ستكون ضارة بالاقتصاد الأميركي. كما أظهرت تحليلات “بلومبرغ” أن موضوع الرسوم الجمركية ذُكر 700 مرة في مكالمات الأرباح الفصلية لشركات “إس آند بي 500” وهو رقم قياسي.
أحد الأمور التي قد تخفف من المخاوف الاقتصادية المتزايدة هو خفض أسعار الفائدة، لكن مسؤولي الاحتياطي الفيدرالي أشاروا إلى أنهم ليسوا بصدد اتخاذ خطوة قريبة. فهم يريدون مزيداً من التأكيد على أن التضخم يسير في الاتجاه الصحيح نحو هدف 2%، كما يحتاجون إلى وقت أطول لتقييم تأثير سياسات ترمب على الاقتصاد.
في حدث أُقيم في نيويورك يوم الجمعة، قال جيروم باول، رئيس الاحتياطي الفيدرالي، الذي حرص على عدم الالتزام بأي موقف واضح بشأن خفض الفائدة حتى تتوفر بيانات اقتصادية صلبة: “الاقتصاد في وضع جيد بشكل عام، ولكن هناك مستويات مرتفعة من عدم اليقين، خاصة فيما يتعلق بالتجارة”.
وفي تعليقه على حالة الأسواق خلال الأسبوع العاصف، قال باول: “بينما نقوم بتحليل المعلومات الواردة، نركز على فصل الإشارات الحقيقية عن الضوضاء”.