الغاز سلاح جيوسياسي بيد ترمب في معركة النفوذ العالمي

كان يستحيل على أي رئيس أميركي أن يطيح بالتحالفات القديمة أو أن يقلب المحاور التي تشكلت عقب الحرب العالمية الثانية في ظل تعطش الولايات المتحدة إلى مصادر الطاقة المستوردة. ولكن اليوم، أصبح بإمكان إدارة الرئيس دونالد ترمب التعويل على سلعة أساسية محلية الصنع من أجل تعزيز نفوذها الجيوسياسي، وهي الغاز الطبيعي المسال.
نفوذ جيوسياسي
تحولت الولايات المتحدة في غضون سبع سنوات فقط من مورّد هامشي للغاز الطبيعي المسال إلى أكبر مصدّر عالمي له، وتستعد اليوم لزيادة إنتاجها 60% خلال الولاية الثانية للرئيس، وذلك وفقاً لتقديرات “بلومبرغ إن إي إف”. إذ ستصبح الولايات المتحدة بحلول نهاية هذا العقد منطلقاً لثلث ناقلات هذا الوقود عالي التبريد، ما قد يتيح لترمب تحقيق الهيمنة في مجال الطاقة التي وعد بها خلال حملته الانتخابية.
رغم كل إجراءات ترمب التي أثارت حفيظة حلفاء الولايات المتحدة، لم يلحق سلوكه غير التقليدي أي ضرر بالإقبال على الغاز الطبيعي المسال الأميركي. فقد سعى في الأسابيع الأولى لولايته الثانية، لإبرام اتفاق سلام في أوكرانيا دون تشاور مع حلفاء واشنطن الرئيسيين أو حتى أوكرانيا نفسها. عمد أيضاً إلى زيادة الرسوم الجمركية على حلفاء بلاده التجاريين وقدم اقتراحاً مزلزلاً لإعادة تشكيل الشرق الأوسط. مع ذلك، كان رد فعل القادة من أوروبا إلى الهند واليابان التعهد بزيادة مشترياتهم من الغاز الطبيعي المسال الأميركي.
اقرأ أيضاً: ترمب يعيد تشكيل قطاع الطاقة الأميركي مع التركيز على النفط والغاز
قالت إيمي مايرز جاف، أستاذة تمويل الطاقة والمناخ في جامعة نيويورك: “مذهل أن يكون رئيس الولايات المتحدة غير مضطر للقلق حيال استيراد الطاقة حين يجري مفاوضات سلام في الشرق الأوسط أو أوروبا… يمكنه قيادة هذه المحادثات من موقع قوة”.
كثيراً ما يتطرق ترمب إلى خططه لتعزيز إنتاج الولايات المتحدة مما يسميه ‘الذهب السائل”، وهو النفط المستخرج عبر تقنية التصديع المائي، الذي اتهم إدارة الرئيس السابق جو بايدن بعدم الاستفادة منه بالكامل بسبب مخاوفها من تغير المناخ. مع ذلك، تشير التوقعات إلى أن نمو إنتاج النفط الخام في الولايات المتحدة سيقتصر هذا العام على 2.9% فقط، فيما ينتظر قطاع النفط الصخري استدرار مواقع جديدة. وبينت “ستاندرد آند بورز غلوبال” (S&P Global)، أن “بيرميان”، أكبر حوض نفطي في البلاد، سيبلغ ذروة إنتاجه بحلول 2028، وهو العام الأخير الكامل من ولاية ترمب الرئاسية.
كذلك، لن يتحقق تعهد وزير الخزانة سكوت بيسنت بزيادة إنتاج النفط بمقدار ثلاثة ملايين برميل يومياً إلا إن شمل ذلك ما يُسمى بما يكافئ النفط من المنتجات التي تشمل الغاز، وفقاً للمحلل راوول لوبلان من “ستاندرد آند بورز غلوبال”. وقد جاء هذا التعهد كجزء من خطة بيسنت الاقتصادية المسماة ‘3-3-3’، وتشمل أيضاً خفض العجز المالي إلى 3% من الناتج المحلي الإجمالي والحفاظ على معدل نمو اقتصادي بنسبة 3%.
نمو سريع
قال وزير الطاقة كريس رايت في مقابلة مع تلفزيون بلومبرغ في فبراير إن إنتاج النفط: “قد لا ينمو بقدر يُعول عليه على المدى القصير”، لكنه أشار إلى أن إنتاج الغاز في الولايات المتحدة سينمو “بشكل ملحوظ” خلال عامين أو ثلاثة. وكان نائب الرئيس جيه دي فانس صرح خلال حملته الانتخابية في بنسلفانيا: “نحن جالسون على كميات من الغاز الطبيعي تضاهي الطاقة لدى السعودية، وما علينا إلا استخدامه”.
تثير هذه التوقعات حماسة المسؤولين التنفيذيين في أكبر شركات النفط والغاز في العالم، وكذلك المسؤولين الحكوميين الذين اجتمعوا في مؤتمر (CERAWeek) الذي نظمته “ستاندرد آندر بورز غلوبال” في هيوستن بدءاً من 10 مارس.
قبل عشرين عاماً فقط، كان مجرد احتمال أن يلعب الغاز الطبيعي دوراً أكبر من خام النفط في الحسابات الدبلوماسية الأميركية ضرباً من الخيال. في مطلع الألفية، كانت الولايات المتحدة تعاني نقصاً في الغاز الذي لم تتعد إسهاماته في إجمالي امدادات الكهرباء في البلاد نسبة 15%، متخلفاً بذلك عن الطاقة النووية والفحم. حتى أن رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي آنذاك ألان غرينسبان دعا إلى زيادة كبيرة في الواردات لمعالجة نقص الإمدادات المحلية.
غير أن التطورات التقنية، مثل الحفر الأفقي والتصديع المائي التي انتشرت في أوائل الألفية، سمحت بالاستفادة من احتياطيات النفط والغاز التي كان يصعب بلوغها فيما مضى، من داكوتا الشمالية حتى نيومكسيكو. مذ ذاك، ازداد إنتاج الغاز الطبيعي في الولايات المتحدة بأكثر من الضعفين، ليصل إلى أكثر من 2.8 مليار متر مكعب يومياً، ويغذي إنتاج 41% من إمدادات الكهرباء في البلاد.
تركيز على الأسواق الأجنبية
ارتفعت إمدادات الغاز الصخري خلال العشرين عاماً الماضية بوتيرة فاقت بكثير الطلب المحلي، ما أدى إلى ركود طويل في الأسعار استمر لعقد وأثر سلباً على أرباح المنتجين. بالتالي، بحث القطاع عن فرص جديدة لاستغلال الفائض، مثل بناء مصانع بتروكيماويات لإنتاج البلاستيك على طول ساحل الخليج. لكن التصدير ظل الهدف الأساسي، نظراً لاستعداد العملاء الدوليين لدفع أسعار أعلى، إذ تحتاج أوروبا إلى بديل مستدام عن الإمدادات الروسية، فيما تحتاج آسيا إلى وقود يدعم اقتصاداتها سريعة النمو، كما تسجل الدول المتقدمة ازدياداً في الطلب على الطاقة الكهربائية لتلبية احتياجات مراكز البيانات المشغّلة للذكاء الاصطناعي.
تسابقت شركات مثل “تشينير إنيرجي” (Cheniere Energy) و”فنتشر غلوبال” (Venture Global) على بناء منشآت ضخمة لتسييل الغاز تقدر كلفتها بمليارات الدولارات لتلبية الطلب من الأسواق الأجنبية.
تعمل هذه المنشآت على تبريد الغاز الطبيعي إلى 160 درجة مئوية تحت الصفر، ما يحوله إلى سائل يمكن نقله على متن سفن متخصصة إلى وجهاته الدولية، حيث يُعاد تحويله إلى غاز. حالياً، تعمل ثماني منشآت من هذا النوع في الولايات المتحدة، وهنالك ثلاث قيد الإنشاء، فيما يوشك عدد من المشاريع على اتخاذ قرار الاستثمار النهائي. في موازاة ذلك، يسعى ترمب إلى إحياء مشروع للغاز الطبيعي المسال في ألاسكا بعدما عانى من طول تلكؤ.
اقرأ أيضاً: ترمب يهدد أوروبا بفرض رسوم جمركية إذا لم تزد شراء النفط والغاز
رغم أن بايدن ليس صديقاً لقطاع النفط والغاز، إلا أنه التزم بأجندة الغاز الطبيعي المسال التي كان قد أرساها ترمب خلال ولايته الأولى، وذلك بعد الاجتياح الروسي لأوكرانيا عام 2022. قال بايدن حينئذ إن إمدادات الغاز الأميركية إلى أوروبا يمكن أن تعوض الغاز الذي تستورده القارة من روسيا عبر الأنابيب، ما سيضعف “آلة حرب” الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. سرعان ما أصبحت هولندا وفرنسا والمملكة المتحدة من أكبر مشتري الغاز الطبيعي المسال الأميركي. وقد أثنت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين على بايدن، ووصفته بأنه شريك “موثوق”، وأكدت أن العلاقة بين ضفتي الأطلسي باتت “أقوى وأكثر وحدة من أي وقت مضى”.
ميزة تنافسية
كان يُنظر إلى الغاز الطبيعي في الماضي على أنه وقود انتقالي، يُفترض أن يساعد العالم في التخلص التدريجي من الفحم والتحول إلى مصادر الطاقة المتجددة النظيفة. لكن المفاجأة تكمن في أنه أثبت قدرته على الاستمرار، ما قد يكون له تداعيات وخيمة على جهود مكافحة التغير المناخي التي تتطلب تقليل الاعتماد على جميع أنواع الوقود الأحفوري، ومنها الغاز الطبيعي، لتحقيق هدف الحياد الكربوني بحلول 2050.
قال مايك سومرز، الرئيس التنفيذي لمعهد البترول الأميركي، الذي يمثل مصالح قطاع النفط والغاز: “لطالما سمعنا أن الغاز الطبيعي مجرد وقود مرحلي، لكن الواقع أثبت أنه وقود المستقبل”.
بلغ متوسط أسعار الغاز الطبيعي في الولايات المتحدة 3.55 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية خلال السنوات الخمس الماضية، أي أقل بنحو 70% من متوسط الأسعار في أوروبا، ما منح الاقتصاد الأميركي ميزة تنافسية كبرى وساهم في دعم سياسات بايدن وترمب الهادفة إلى إعادة استقطاب قطاع التصنيع نحو الداخل الأميركي.
قال أرجون مورتي، الشريك في شركة “فيريتين” (Veriten) المتخصصة في أبحاث واستشارات الطاقة ومقرها هيوستن: “إن الطاقة أساس كل اقتصاد، وقدرة الولايات المتحدة على تأمين احتياجاتها بتكلفة منخفضة وزيادة صادراتها تمنحها ميزة هائلة”. في المقابل، عانت أوروبا “تراجعاً كبيراً في الصناعة”، خاصة في ألمانيا.
اقرأ أيضاً: عودة الغاز إلى مكانته السابقة في أميركا حقيقية
إلا أن النمو الحاد لقطاع الغاز الأميركي واجه عقبة ضخمة في السنة الأخيرة من رئاسة بايدن عندما علقت إدارته تراخيص تصدير الغاز الطبيعي المسال الجديدة بهدف دراسة تأثير ذلك على تغير المناخ. لكن ترمب رفع هذا التعليق في أول أيام رئاسته دون ذكر المخاوف المناخية التي دفعت بايدن إلى تعليق التراخيص. (كما لم يذكر مصطلح “غاز الحرية” الذي كانت وزارة الطاقة في عهد ترمب قد حاولت عبثاً الترويج له في 2019 لتسويق الغاز الطبيعي الأميركي كبديل للإمدادات من روسيا أو الشرق الأوسط).
النافذة لن تبقى مفتوحة إلى الأبد
ما يشهده قطاع الغاز الأميركي من توسع في الإنتاج والتصدير يختلف تماماً عمّا يحدث في قطاع النفط في البلاد. برغم أن الولايات المتحدة أكبر مصدّر للنفط في العالم، إلا أن ذلك لا يمنح ترمب وزناً جيوسياسياً يضاهي منظمة “أوبك” التي تقودها السعودية. فيما تضخ الولايات المتحدة حالياً نحو 13.5 مليون برميل يومياً، أي ما يفوق إنتاج السعودية بنحو 50%، إلا آفاق النمو محدودة لأن انخفاض أسعار النفط يجبر المنتجين على خفض التكلفة والحفاظ على ما تبقى من مواقع الحفر، ولكن إذا ما استمر قطاع الغاز الطبيعي بنموّه المتوقع، فإن تباطؤ نمو قطاع النفط قد لا يهم في نهاية المطاف.
أوروبا التي تعتمد اليوم على الغاز الأميركي لا تجد هامشاً واسعاً للمناورة. حتى فيما تستشيط أوكرانيا غضباً من تعاطف ترمب الظاهر مع بوتين، تحاور أكبر شركة طاقة خاصة فيها بائعي الغاز الأميركيين بشأن إبرام عقد لإمدادها بالغاز الطبيعي المسال لمدة عامين.
وفي مواجهة التهديدات بزيادة الرسوم الجمركية الأميركية، تعهد رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي بتسهيل الاستيراد. كما تدرس دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان زيادة مشترياتها من الغاز الأميركي لتجنب الرسوم الجمركية التي فرضها ترمب، ولتقليل الفائض التجاري مع أكبر اقتصاد في العالم.
لكن استراتيجية ترمب سيف ذو حدين، فقد تهدد بإقصاء بعض كبار مشتري الغاز. في فبراير، فرضت الصين، التي كانت أكبر مستورد للغاز الطبيعي المسال في العام الماضي، رسوماً جمركية انتقامية على الغاز الأميركي رداً على رفع الرسوم الجمركية الأميركية. ولا يقتصر الخطر على ذلك، فمع دخول كثير من المنشآت الأميركية الجديدة في الخدمة قريباً، يتوقع المحللون أن تشهد السوق فائضاً في العرض بحلول نهاية العقد، ما قد يؤدي إلى انخفاض الأسعار.
مع ذلك، الغاز الطبيعي المسال عادةً أغلى من الفحم وأقل نظافة من الطاقة المتجددة. وقد أثبتت الصين في أحيان كثيرة أنه يمكنها الإنتاج من مصدري الطاقة الآخرين محلياً دون الحاجة للاعتماد على الاستيراد.
اقرأ أيضاً: الصين توقف استيراد الغاز الطبيعي المسال الأميركي
قالت مايرز جاف، الأستاذة بجامعة نيويورك: “لا ترغب أي حكومة في الاعتماد على أسواق الاستيراد ما لم تكن مضطرة لذلك… خلال العامين المقبلين، قد لا يكون أمام الدول خيار آخر، لكننا نمر بمرحلة تحول كبيرة في قطاع الطاقة، وبعد عشر سنوات ستتوفر الخيارات. نافذة الفرصة أمام الغاز الطبيعي الأميركي لن تبقى مفتوحة دائماً”.