العمل 6 أيام أسبوعياً لم يعد مجرد أسطورة في اليونان
أي شخص شاهد طوابير السياح الألمان الذين لفحتهم الشمس وهم يستعجلون العمال اليونانيين للحصول على منشفة على الشاطئ هذا الصيف، سيدرك مدى خطأ الصور النمطية الاقتصادية. فعلى الرغم من أن اليونانيين وُصفوا بالكسل خلال أزمة الديون الأوروبية، فإنهم في الواقع يعملون ساعات أكثر من أي جنسية أخرى في أوروبا.
في المقابل، فإن عدد ساعات عمل الألمان، الذين يُفترض أنهم مدمنون على العمل، هو من بين الأقل على مستوى العالم. لكن احتساء النبيذ في سانتوريني، أو الإقامة في فيلا، هو أسلوب حياة مرفه لا يمكن لغالبية اليونانيين التمتع به.
حالياً، تتسع الفجوة في ساعات العمل بشكل كبير في ظل قانون جديد مثير للجدل يسمح لبعض الشركات اليونانية بتطبيق العمل 6 أيام أسبوعياً، وهو الأول من نوعه في أوروبا، مما يتعارض مع الاتجاه السائد الذي يهدف إلى تقليل ساعات العمل الأسبوعية لجذب أصحاب الكفاءات والمواهب.
زيادة ساعات العمل لا تعني ارتفاع الإنتاجية
على الرغم من أن هذا القانون يمثل من الناحية الفنية تدبيراً استثنائياً لعدد من الشركات الصناعية التي تعمل 24 ساعة يومياً، 7 أيام أسبوعياً، وليس إجراءً يشمل كل القطاعات، فقد ينتهي إلى كسر صورة نمطية عن قدرة أوروبا على مواصلة أسلوب الحياة المريح.
إذا خالفت اليونان المسار الذي تتبعه الدول الأخرى، فلن يكون السبب هو الآثار الإنتاجية للعمل لساعات أكثر. فعندما أعمل 6 أيام بدلاً من 5، من المحتمل أن يزيد إنتاجي الإجمالي نظراً لزيادة عدد ساعات العمل. ولكن إذا نظرت إلى الإنتاجية على أساس الساعة، فقد يتبين أن إنتاجيتي تتراجع بسبب الإرهاق الذي قد يصيبني من العمل لساعات طويلة دون راحة كافية.
كشفت دراسة عن العاملين بمراكز الاتصال أُجريت بين عامي 2008 و2010 أن زيادة ساعات العمل بنسبة 1% أدت إلى زيادة الإنتاج بنسبة 0.9% من حيث عدد المكالمات التي تم الرد عليها، فوصف ذلك القانون بأنه “يراعي الموظفين” هو وصف خاطئ، حتى لو كانت الفكرة وراءه تتمثل في تعزيز حماية حق العامل في الأجر عن ساعات العمل الإضافية.
كما أن ذلك ليس نوعاً من التدابير الطارئة تضاهي الإجراءات التي اتخذت في الفترة المظلمة لأزمة الديون الأوروبية، عندما طُرحت فكرة العمل 6 أيام أسبوعياً في إطار محادثات خطة الإنقاذ المالي. فاقتصاد اليونان حالياً من بين أسرع الاقتصادات نمواً في أوروبا، واستعاد التصنيف الائتماني من الدرجة الاستثمارية، وخفّض نسبة ديونه إلى الناتج المحلي الإجمالي لأقل مستوى منذ أكثر من عقد (على الرغم من أن نسبة 160% تقارب ضعف متوسط النسبة في أوروبا).
اليونان تسعى لمعالجة نقص الأيدي العاملة
لكن تعافي اقتصاد اليونان لم يخلُ من التداعيات السلبية؛ انخفضت الأجور الحقيقية منذ 2015، وأثارت هوامش أرباح الشركات الأكثر ثراءً غضب المواطنين اليونانيين. لكن حالياً تشهد فرنسا خفض التصنيف الائتماني، فيما تعاني ألمانيا الركود وصورة “الرجل المريض”.
الهدف الحقيقي من هذا القانون هو معالجة نقص القوة العاملة بعد هروب أكثر من مليون شخص في سن العمل من اليونان ما بين عامي 2010 و2022. نقص العمالة يرجع جزئياً إلى هجرة العقول المرتبطة بأزمة الديون الأوروبية، لكن التدهور الديموغرافي يمثّل قنبلة موقوتة، وسط ارتفاع متوسط الأعمار المتوقع وانخفاض معدلات المواليد.
الحلول القابلة للتطبيق قليلة؛ فمن الصعب أتمتة دولة تعتمد بشكل أساسي على السياحة، وتتطلع لإقامة مشروعات إنشائية (من بينها أكبر مدينة ذكية في أوروبا). كما أن سياسة الهجرة، التي تصفها اليونان نفسها بأنها “صارمة لكن عادلة” لم تجلب لها العمال الذين تحتاجهم. لذلك، لذلك، اضطر اقتصاد المنتجعات السياحية، وهو الأخير من نوعه في أوروبا، إلى اللجوء إلى “الملاذ الأخير”؛ وهو زيادة ساعات عمل الموظفين الحاليين، كما أشارت المحللة الاقتصادية بينلوبي غولدبرغ.
أوروبا تسعى لحل أزمة العمالة
هنا تبرز أهمية تجربة اليونان بالنسبة لقارة أوروبا، والتي يجب متابعتها عن كثب. فرغم أن اسم أوروبا بات مرادفاً لجني مكاسب سنوات من التطور التكنولوجي وارتفاع مستوى المعيشة، مما أدى إلى زيادة أوقات الفراغ، تعاني القارة أيضاً من نقص العمالة، والتدهور الديموغرافي، وجمود نمو الإنتاجية. هذا الجمود يبرز بشكل خاص عند مقارنته بتحسن مستويات الإنتاجية في الولايات المتحدة، التي ارتفعت بأكثر من 1% ما بين عامي 2007 و2019.
تطبيق أسبوع عمل من 4 أيام قد يكون خطوة إيجابية، لكنه لن يكون كافياً وحده لتغيير الاتجاهات العامة المقلقة على المدى الطويل. فنسبة الأشخاص في الفئة العمرية ما بين 20 عاماً و64 عاماً مقارنة بمن تجاوزوا عمر 65 عاماً في الاتحاد الأوروبي انخفضت من 3.8 في عام 2003 إلى 2.7 في العام الماضي، ومن المتوقع أن تصل إلى 1.5 بحلول عام 2100.
لتجنب زيادة ساعات العمل، يجب اتخاذ إجراءات حاسمة في مجالات الهجرة، والأتمتة، والمشاركة في سوق العمل. تعمل فرنسا على رفع نسبة المشاركة بإقناع المزيد من الأشخاص بالاستمرار في العمل بدلاً من التقاعد، بينما تبرم إيطاليا اتفاقيات لزيادة العمالة المهاجرة.
إضافةً إلى ذلك، قد تساعد زيادة تمويل؛ قد تساعد زيادة ألمانيا تمويل رياض الأطفال والمدارس الابتدائية عدداً أكبر من النساء على العودة إلى العمل، كما كتب زميلي كريس براينت في مقاله. في الوقت ذاته، تتطلع جميع الدول إلى شركات الذكاء الاصطناعي العملاقة، على أمل أن تؤدي الأتمتة إلى طفرة في الإنتاجية..
رفع الإنتاجية بديل عن زيادة ساعات العمل
تتبنى وجهة النظر المتفائلة فكرة أن هذه التدابير قد تكون كافية. ويشير بحث شارك في إعداده جيلبر سيت من كلية نيوما للأعمال إلى أنه إذا تمكنت أوروبا من تحقيق ارتفاع في الإنتاجية مماثل للمستويات المسجلة في الولايات المتحدة من عام 1900 إلى 1975، فقد يصل متوسط ساعات العمل الأسبوعية إلى 25 ساعة بحلول نهاية العقد الجاري. ولن يكون ذلك بعيداً عن توقع جون ماينارد كينز الذي رأى أن ساعات العمل الأسبوعية قد تنخفض إلى 15 ساعة بحلول عام 2030، ما سيجعل الحديث عن العمل 6 أيام أسبوعياً يبدو كظاهرة عابرة في نهاية المطاف.
لكن الواقع ليس مثالياً، فهناك تحديات كبيرة مثل مكافحة تغير المناخ، كما ظهر في حرائق الغابات التي اندلعت هذا الصيف، وشيخوخة السكان، وارتفاع الدين العام، كلها عوامل قد تستنزف جزءاً من هذه المكاسب المحتملة في الإنتاجية. بالإضافة إلى ذلك، فإن الحاجة إلى زيادة الإنفاق العسكري دفعت الدنمارك إلى إلغاء عطلة رسمية.
كذلك، فإن خطر خيبة الآمال الكثيرة المعقودة على وعود الذكاء الاصطناعي سيظل قائماً.
وقد حذر تشارلز غودهارت ومانوج بادهان في كتابهما “التحول الديموغرافي الكبير” (The Great Demographic Reversal) من أن تعيين الموظفين اللازمين لرعاية كبار السن وحده قد يعادل أثر المكاسب التي ستحققها الأتمتة. وفي الولايات المتحدة، قد تواجه البلاد عجزاً يقدر بـ 120 ألف طبيب بحلول عام 2032.
إذا لم تجد أوروبا طريقة لإصلاح وتجديد اقتصادها العتيق، قد ينتهي الأمر بأن تصبح تجربة اليونان في زيادة ساعات العمل رؤية لمستقبلنا جميعاً، بما في ذلك نحن الألمان.