اخر الاخبار

الطائرات المسيرة تخلق جيلاً جديداً من صُنّاع السلاح

قبل عقود، طُرحت خطة ثورية لاجتياح سماء العدو بأعداد هائلة من الطائرات زهيدة الثمن. رفضتها وزارة الدفاع الأميركية حينها، لكن التكنولوجيا اليوم أعادت إحياء الفكرة بأسلوب أكثر تطوراً. فما بدأ كنظرية في الحرب الباردة، أصبح اليوم واقعاً مع الشركات الناشئة التي تصنع مسيّرات قادرة على إغراق ساحات القتال بتكلفة زهيدة وسرعة مذهلة.

بداية النظرية: الضربة الاستباقية

مطلع الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وتحديداً في عام 1949، واجه علماء مركز “راند” للأبحاث سؤالاً مصيرياً: كيف يمكن تدمير قدرات موسكو على شن هجوم نووي بأقل تكلفة ممكنة؟

كان في “راند” وحدة متخصصة تستخدم “نظرية الألعاب” في محاكاة المعارك الجوية، تحت إشراف عالم الرياضيات البارز الدكتور جون فون نيومان، الذي عُرف بمواقفه المتشددة تجاه الاتحاد السوفييتي، حيث كان من أبرز الداعمين لتحويل الحرب الباردة إلى مواجهة مباشرة.

وبعد أن أنهى عمله في مشروع مانهاتن لتطوير القنبلة النووية، وجّه تركيزه نحو موسكو، داعياً إلى توجيه ضربة استباقية لحسم الصراع بين القوتين العظميين. وقد عبّر نيومان عن موقفه الحاد تجاه روسيا بعبارات شهيرة قال فيها: “لو قيل لي إننا سنقصفها غداً، سأسأل: لماذا ليس اليوم؟ ولو قيل إن القصف سيتم في الخامسة مساءً، سأسأل: لماذا لا يكون في الواحدة ظهراً؟”.

يُقال إن جون فون نيومان، بعقله العبقري وروحه المتعطشة للتدمير، كان مصدر إلهام لشخصية العالم المجنون الدكتور سترانجلاف (Dr. Strangelove) في فيلم ستانلي كوبريك الشهير “كيف توقفت عن القلق وأحببت القنبلة الذرية”. وسواء صحت هذه الرواية أم لا، فقد جاءت خطة الهجوم المقترحة على الخط الفاصل بين العبقرية والجنون.

اقترح علماء “راند” تنفيذ هجوم جوي كاسح على روسيا باستخدام عدد هائل من الطائرات منخفضة التكلفة، سهلة التصنيع، ومحدودة القدرات، بحيث لا تحمل معظمها أي قنابل على الإطلاق.

الفكرة لم تكن في تدمير الأهداف مباشرة، بل في إغراق الأجواء الروسية بأعداد تفوق بكثير ما يمكن للدفاعات الجوية التعامل معه، ما يؤدي إلى استنزاف منظومات الدفاع وإرباكها حتى تنهار.

عندها، تصبح السماء مفتوحة أمام الطائرات القليلة المتبقية من السرب المُهاجم، والتي ستتولى تدمير الأهداف الاستراتيجية، بما في ذلك منصات الصواريخ، ومحطات الطاقة، ومراكز الاتصال، والمباني الحكومية.

كان مركز “راند” فخوراً للغاية بنتائجه غير التقليدية، التي استندت إلى استخدام الكمبيوتر -ذلك الجهاز السحري العجيب بمقاييس ذلك العصر- في تحليل أكثر من 400 ألف نقطة بيانات مختلفة، شملت أنواع الطائرات، وكمية الوقود، وتكاليفه، وتسليح الطائرات، وعوامل أخرى.

لكن عندما حان موعد تقديم الخطة إلى سلاح الجو الأميركي، قوبلت بالاشمئزاز والسخرية. فاللجنة، التي كان معظم أعضائها من الطيارين السابقين، نبهت العلماء إلى ثغرة قاتلة لم تأخذها حساباتهم المعقدة بعين الاعتبار: لم تتضمن نماذجهم الرقمية ومعادلاتهم الرياضية أي تقدير لقيمة حياة مئات الطيارين الذين سيتعين عليهم التضحية بأنفسهم في هذه الهجمة “رخيصة التكلفة”، ما دامت كلفة الأرواح البشرية قد تم تجاهلها تماماً في المعادلة.

دُفنت خطة “راند” في الأدراج، لكن تأثيرها ظل يحلق في الأفق.

مليون مسيّرة صغيرة 

يُوضح الموقع الرسمي لشركة “ماك إندستريز” (Mach Industries) الأميركية أن مهمتها تتمثل في “بناء الجيل الجديد من منصات الإطلاق التي ستحافظ على تفوق التحالف الأميركي. وسننتج هذه المنصات بأعداد مليونية لردع الصراع الحركي”.

تأسست “ماك إندستريز” على يد رائد الأعمال الأميركي إيثان ثورنتون، الذي لا يوحي مظهره الهادئ وجسده النحيل، ولا حتى صوته الخجول في لقاءاته المصورة، بأنه يقود واحدة من أهم شركات السلاح الناشئة في العالم. 

في عام 2022، عندما كان لا يزال في التاسعة عشرة من عمره، حصل ثورنتون على منحة “ثيل”، التي يقدمها الملياردير الأميركي بيتر ثيل لدعم الشباب الطموحين الذين يختارون ترك التعليم الجامعي لخوض مغامرة تأسيس مشاريع خاصة ذات أهداف كبرى. واليوم، وهو في أوائل العشرينيات، يدير “ماك إندستريز”، التي تُقدر قيمتها بنحو 335 مليون دولار وفق آخر جولة تمويلية.

في لقاء مصوّر حديث حول خطط “ماك إندستريز”، يظهر إيثان ثورنتون وهو يتجول داخل مصنعه المترامي الأطراف، متحدثاً بهدوء وبأسلوب أقرب إلى محاسب أو محلل مالي، مستعرضاً قراراته المختلفة لتحسين كفاءة التصنيع وخفض التكاليف.

يوضح، على سبيل المثال، أن الشركة تصنع أجسام القنابل من الحديد المصبوب بدلاً من الألمنيوم المحقون، لأن ذلك يقلل من تكلفة تعديل القوالب ويطيل عمرها التشغيلي. كما يشير إلى أن المصنع يحصل على إمدادات كهرباء تفوق احتياجاته الفعلية، ما يتيح تنفيذ أي طلبيات مستقبلية بسرعة فائقة.

لكن بعيداً عن المصطلحات الصناعية واللغة العسكرية التقليدية، فإن جوهر ما تطوره الشركة هو طائرات صغيرة ذاتية القيادة ومنخفضة التكلفة، يمكن إنتاجها بأعداد هائلة وإطلاق الملايين منها خلال ساعات. 

لا تعتمد هذه المسيرات على التفوق التكنولوجي بقدر ما تراهن على سرعة الإنتاج، ورخص التكلفة، والقدرة على إغراق أجواء العدو بأعداد تفوق قدرته على المواجهة؛ وهو مفهوم يعيد إحياء أفكار خطط الحرب الباردة، لكن بأسلوب أكثر تطوراً وواقعية.

باختصار، إنها خطة “راند” تعود إلى الحياة، لكن هذه المرة دون الحاجة لأخذ كلفة أرواح الطيارين في الحسبان.

تغير العقيدة العسكرية: حرب الأسلحة الاستهلاكية

أحدث التطور الهائل في صناعة المسيّرات تحولاً جذرياً في العقيدة العسكرية، مما جعل الجيوش الحديثة أكثر تقبلاً لاستراتيجية “حرب الأسلحة الاستهلاكية” (Attritable Warfare)، التي تقوم على استبدال المعدات الضخمة والمكلفة بأسلحة منخفضة التكلفة، يمكن إنتاجها بكميات هائلة وتعويضها بسهولة.

وبرزت هذه الاستراتيجية في النزاعات العسكرية الأخيرة، حيث رأينا ملامحها الأولى في حرب إقليم ناغورني قره باغ عام 2021، عندما استخدمت أذربيجان الطائرات المسيرة بفاعلية غير مسبوقة لتدمير الدبابات، والمدرعات، ومنظومات الدفاع الجوي الأرمينية.

لكن ذروة هذا النهج ظهرت بوضوح في الحرب الروسية الأوكرانية، حيث أصبحت المسيّرات عنصراً أساسياً في المعركة، مع استهلاك أوكرانيا ما لا يقل عن 5000 مسيّرة شهرياً.

لذلك، لم يكن مفاجئاً حين أعلنت البحرية الإيرانية في سبتمبر 2022 عن اعتراض مجموعة من المسيّرات العائمة في البحر الأحمر، متهمة إياها بـ”التجسس على خطوط التجارة الدولية” لصالح الولايات المتحدة، وفقاً لوصفها.

فمع تزايد الاعتماد على المسيّرات في مختلف العمليات العسكرية، لم تقتصر البحرية الأميركية على استخدامها في الجو فحسب، بل بدأت أيضاً في إشراكها بمهام الاستطلاع والمراقبة البحرية، مما وسّع نطاق دورها ليشمل السماء والمياه معاً.

لكن المفاجأة الحقيقية كانت في نوع المسيّرات التي ظهرت في اللقطات التي بثها التلفزيون الإيراني، حيث كانت من طراز “Saildrone Explorer”وهو نموذج تنتجه شركة أميركية ناشئة متخصصة في تصميم المسيّرات العائمة لأغراض البحث العلمي، مثل دراسة الدوامات والأعاصير في أعالي البحار، وكذلك لاستخدامات تجارية، مثل رصد أعطال كوابل الاتصالات البحرية وأنابيب الغاز الطبيعي.

ورغم أن هذه الشركة لم يكن لها أي سابقة أعمال في مجالات الدفاع والتسليح، فقد لجأت إليها البحرية الأميركية للاستفادة من قدراتها التكنولوجية، ومرونة مسيّراتها، وأنظمتها المتطورة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي، لتوظيفها في مسح البحر بحثاً عن الألغام، وتعقب القراصنة، ومهام الاستطلاع البحري المتقدمة.

لأسباب واضحة، يتجه البنتاغون تدريجياً نحو الشركات الناشئة، التي يؤسسها مدنيون بلا خبرة سابقة في صناعة السلاح، لتلبية احتياجاته المتزايدة من الدرونز والتقنيات الحربية، إضافة إلى الأنظمة ذات الاستخدام المزدوج المدني والعسكري.

هناك ثلاثة أسباب رئيسية وراء هذا التوجه:

أولاً: بطء شركات الدفاع التقليدية:

الشركات الكبرى مثل “لوكهيد مارتن” و”بوينغ” و”نورثروب غرومان” اعتادت نهجاً تطويرياً تقليدياً يعتمد على ميزانيات ضخمة وسنوات طويلة من الأبحاث والتجارب. في المقابل، تتميز الشركات الناشئة بروح الابتكار، وسرعة التنفيذ، والقدرة على التجربة والتعلم من الأخطاء من دون تردد، مما يمنحها ميزة تقديم حلول غير تقليدية قد لا تخطر ببال المصممين التقليديين.

ثانياً: التكلفة المنخفضة والمرونة التصنيعية: 

على عكس عمالقة الصناعة العسكرية، تستطيع الشركات الناشئة إعادة تصميم عمليات التصنيع من الصفر، بعيداً عن التعقيدات البيروقراطية والتصورات المسبقة التي قد تُثقل كاهل الشركات الكبرى، مما يتيح إنتاج أنظمة أرخص وأكثر مرونة.

ثالثاً: مخاطر وقوع التكنولوجيا في أيدي الأعداء:

لم يكن الهجوم الإيراني على المسيرات العائمة خارج حسابات البحرية الأميركية، التي تدرك جيداً أن هذه المسيرات الصغيرة ليست محمية مثل السفن الحربية الكبيرة والمأهولة، وبالتالي، فإن فقدان بعضها في أيدي الخصوم أمر وارد عاجلاً أم آجلاً.

لذا، من الأفضل أن تكون هذه المسيرات معتمدة على تقنيات تجارية متاحة، غير حساسة، ولا تحتوي على أسرار عسكرية متقدمة، مثل تلك الموجودة في هندسة الغواصات أو الطائرات الحربية المتطورة.

جيل جديد من صُنّاع السلاح

وفقًا لتقرير حديث صادر عن “إس آند بي”، تجاوز حجم استثمارات رأس المال الجريء والأسهم الخاصة في الشركات الناشئة الدفاعية في الولايات المتحدة 2.6 مليار دولار.

تحتل شركة “ماك إنداستريز” (mach industies) المركز العاشر من حيث حجم الاستثمارات التي جذبتها العام الماضي. أما أعلى هذه الشركات قيمة وأكثرها جذباً للاستثمارات فهي “أندوريل” (Anduril) التي أسسها بالمر لوكي، وهو رائد أعمال شاب آخر لم يكمل عامه الخامس والثلاثين، معروف بظهوره الدائم بقمصان مزركشة بألوان فاقعة، أقرب إلى ملابس التنزه على شواطئ ميامي منها إلى عالم صناعة الدفاع.

برز لوكي كموهبة فريدة في تصميم الأجهزة الإلكترونية منخفضة التكلفة، واستطاع أن يبني نظارات واقع افتراضي تتفوق على جميع المنافسين من حيث الأداء، مع تكلفة تقل عن عُشر سعر المنتجات المنافسة.

هذه النظارات تُباع اليوم تحت علامة “أوكيولس” (Oculus) المملوكة لشركة “ميتا”. واليوم، يُوظف المهارات نفسها في تصميم المسيّرات والأسلحة ذاتية التوجيه المعتمدة على الذكاء الاصطناعي، مع تحقيق أقصى كفاءة بأقل تكلفة ممكنة.

نهاية حروب الجيوش التقليدية؟

إن سلاح المستقبل لم يعد يُصمم داخل معامل الجيوش التقليدية، بل على أيدي شباب لم يخدموا يوماً في جيش نظامي، ولم يتعلموا حتى كيفية إلقاء التحية العسكرية أو الوقوف في صف وانتباه.

وهذا يعني أن قدرة الجيوش الحديثة على تطوير تسليحها لم تعد تعتمد فقط على الميزانيات الضخمة والصفقات الكبرى مع الشركات العملاقة، بل أصبحت مرهونة أيضاً بمدى الإبداع والحرية في بيئة ريادة الأعمال داخل الدولة، وكذلك بقدرة الجيوش على بناء شراكات حقيقية، واستقطاب العقول المبتكرة، وإشعال حماسها لخدمة الأمن القومي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *