اخر الاخبار

الشيك على بياض في العالم العربي.. فرصة ذهبية للتمويل أم فقاعة جديدة؟

في عالم الشركات الناشئة، حيث تُصنع الثروات وتتهاوى الأحلام في لمح البصر، برزت شركات “الشيك على بياض” أو جهات الاستحواذ ذات الأغراض الخاصة (SPACs) كأحدث أدوات التمويل التي وُعِدت بأنها تختصر الطريق نحو القمة. هذه الأداة الاستثمارية المثيرة للجدل وُلدت من رحم وول ستريت خلال ثمانينيات القرن الماضي، قبل أن تجد طريقها إلى العالم العربي مع جائحة كورونا. غير أن بريقها لم يدم طويلاً، واليوم تعود هذه الآلية إلى واجهة الأسواق ويعود معها السؤال: هل نحن أمام فرصة ذهبية لفتح أبواب أسواق رأس المال أمام المستثمرين العرب، أم فقاعة جديدة قد تتبدد قبل اكتمال الحكاية؟

رحلة انتشار الـSPACs

تصدرت هذه الشركات المشهد في 2020 ككيانات يتم تأسيسها والترخيص لها كشركة رأسمال جريء، واستحوذت على 45% من الطروحات الأولية حينها. وتوسعت مستهدفة تحقيق هدف وحيد وهو جمع الأموال من المستثمرين عبر الإدراج في سوق الأسهم، بهدف شراء شركة أو أكثر خلال فترة زمنية محددة عادة ما تكون عامين، دون أن يكون لديها نشاط تشغيلي قائم أو منتج فعلي. وأُطلق عليها “الشيك على بياض” لأن المستثمرين يضعون أموالهم في الشركة قبل معرفة اسم أو نشاط الشركة التي سيتم الاستحواذ عليها.. مزيد من المعلومات في الفيديو أدناه.




لكن هذه الأوعية النقدية شهدت موجة ازدهار ثم انهيار مدوٍّ خلال العامين التاليين حتى عام 2022، ثم وخلال 2024 أحيت تلك الشركات نفسها من الرماد، وتصدرت المشهد مجدداً في وول ستريت، بعدما طرأت تطورات على البيئة السياسية والتنظيمية. وجمعت نحو 11 مليار دولار في النصف الأول من 2025، مقارنة بأقل من ملياري دولار خلال الفترة نفسها من العام الماضي، بحسب بيانات جمعتها بلومبرغ.

اقرأ أيضاً: وعادت شركات “الشيك على بياض”.. ما الخطأ المتوقع هذه المرة؟

ما المخاطر المحيطة بها؟

رغم هذه العودة القوية لهذه الشركات منذ بداية العام الماضي، إلا أن المخاطر المحيطة بتلك الشركات ما تزال تضعها في دائرة الشك والخوف لدى بعض المستثمرين.

أول هذه المخاطر تمثل في احتمالية الفشل، إذ قد تعجز شركات الشيك على بياض عن العثور على هدف استحواذ مناسب ضمن المهلة الممنوحة لها، وهو ما يعرضها لخطر التصفية وفقدان رأس المال. وتشير بيانات “بيتش بوك” إلى أن مئات من شركات الـSPAC التي أُنشئت منذ عام 2020 ما تزال تبحث عن صفقات حتى الآن.

إلى جانب ذلك، يلاحقها شبح ضعف الأداء بعد الاندماج. فقد أظهرت الإحصاءات أن الشركات التي أتمت اندماجاتها في 2021 و2022 تكبدت خسائر حادة، حيث فقدت ما بين 59% و67% من قيمتها السوقية مقارنة بأسعارها الأولية.

تتفاقم الصورة مع تضارب المصالح؛ فالرعاة الذين يحصلون عادةً على حصة تصل إلى 20% من الأسهم قد يسعون لإتمام أي صفقة، حتى وإن لم تحقق المصلحة الكاملة لحملة الأسهم، لأن أرباحهم مضمونة تقريباً مهما كانت النتائج. هذا بالإضافة إلى مشكلة تخفيف ملكية المساهمين، حين يحصل الرعاة على أسهم إضافية عبر أدوات مالية مثل الـwarrants، ما يقلص نصيب المساهمين الأصليين.

لكن ربما يظل الخطر الأكبر في غياب المعلومات الكاملة. فالمستثمرون غالباً يدخلون اللعبة قبل معرفة هوية الشركة المستهدفة، وهو ما يجعلهم يسيرون في طريق مليء بالضبابية. ويزيد الطين بلة أن بعض هذه الصفقات تسوّق بدعم شخصيات مشهورة، فينجذب إليها الأفراد بدافع الحماسة لا بناءً على تقييم مالي رصين، بينما شهرة هؤلاء لا تعني بالضرورة ضمان نجاح الاستثمار.

“الشيك على بياض” في المنطقة العربية

رحلة الـSPACs في المنطقة بدأت أبكر مما يعتقد كثيرون. أول دخول كان عام 2019، غير أن الانطلاقة الحقيقية لم تحصل إلا في 2021، عندما خطفت “سويفل” المصرية التأسيس و”أنغامي” اللبنانية الأضواء بإدراجهما في بورصة ناسداك عبر اندماج مع شركات SPAC أميركية.

كما كانت البورصة المصرية من أوائل الجهات عربياً في إدراج شركات الشيك على بياض، حيث أصدرت هيئة الرقابة المالية في 2021 ضوابط تأسيس ومزاولة نشاط الشركات ذات غرض الاستحواذ (SPAC) وقيد أوراقها بالبورصة المصرية لأول مرة كآلية تمويل مستحدثة. لكن ورغم أنها سمحت رسمياً بتأسيس الشركات منذ نوفمبر 2021، فإن أول صفقة لم تخرج للنور إلا في يوليو 2025 عبر “كاتليست بارتنرز ميدل إيست” بقيمة 2.8 مليار جنيه. واليوم نسمع عن “صحة” للخدمات الطبية تجهز لإطلاق SPAC قبل نهاية 2025. كما عدلت القاهرة قواعدها في فبراير الماضي وحددت رأس مال تأسيسي أدنى وزيادته لاحقاً عبر الطرح.

اقرأ أيضاً: أول “شيك على بياض” مصرية تستحوذ على شركتين بـ2.8 مليار جنيه

مصطفى موسى، محامي وشريك في شركة محاماة للشرق، يقول إن تواجد شركات الـSPACs بالبورصة المصرية خطوة موفقة، متوقعاً أن يقبل عليها المستثمرين، وسط سرعة استجابة مصر لآليات التمويل الحديثة حول العالم.. المزيد من المعلومات في الفيديو أدناه.




الإمارات أيضاً لم تنتظر طويلاً؛ ففي نوفمبر 2021 وضعت أبوظبي إطاراً تنظيمياً خاصاً بهذه الشركات، وما هي إلا أسابيع حتى أقرّته هيئة الأوراق المالية والسلع في يناير 2022. وجمعت أول شركة شيك على بياض إماراتية “إيه دي سي” 367 مليون درهم في مايو من العام نفسه. ثم خططت شركة “أفيردا” لخطوة مشابهة، وطرقت “شعاع كابيتال” باب بورصة ناسداك بقيمة تصل إلى 200 مليون دولار، وأعلنت “ميسا بارتنرز” أنها تجهز لطرح شركة SPAC في أبوظبي.


كان البعض يظنون أن “الشيك على بياض” مجرد موضة عابرة من وول ستريت لن تجد مكاناً لها هنا… لكن رحلتها في المنطقة ماتزال مستمرة حتى اليوم.

 

السعودية بدورها لم تقف متفرجة. في 2023 أعلنت أنها تدرس إطاراً قانونياً لإدراج هذه الشركات، مع خطط للسماح بها في سوق “نمو” بحلول 2027 تقريباً. وتسعى المملكة من خلال هذه الخطوة إلى تعزيز جاذبية سوقها المالية واستقطاب المزيد من الاستثمارات الأجنبية، فضلاً عن توظيف الـSPACs كأداة لدعم الشركات الناشئة والتقنيات الحديثة ضمن مستهدفات رؤية 2030.

ماذا حدث للشركات العربية التي اندمجت بالفعل مع SPACs؟

حين اندفعت شركات عربية ناشئة إلى بورصة “ناسداك” عبر بوابة شركات الاستحواذ ذات الأغراض الخاصة (SPACs)، بدا الأمر وكأنه لحظة انتصار تاريخية: شركات وُلدت في القاهرة وبيروت وأبوظبي تقف جنباً إلى جنب مع عمالقة وول ستريت. لكن مع انقشاع الضوضاء الأولى، تباينت النتائج بشدة. البعض تعثر سريعاً وخسر بريقه في مواجهة قسوة الأسواق، فيما واصل آخرون الكفاح للبقاء، بينما وجد قلة موطئ قدم أرسخ نسبياً.

سويفل: صعود كبير… ثم مواجهة الخسائر
عندما طرحت “سويفل” المصرية أسهمها في مارس 2022 بعد اندماجها مع “كوينز غامبت”، ارتفع سقف التوقعات: شركة مواصلات ذكية انطلقت من القاهرة، بتقييم 1.5 مليار دولار، تدخل البورصة الأميركية كرمز لطموح المنطقة. لكن خلال عام واحد فقط، فقد السهم نحو 99% من قيمته، واضطرت الشركة إلى تنفيذ دمج عكسي بنسبة 1 إلى 25 حتى تبقى مدرجة في ناسداك.
الخسائر المالية، والتخارج من أسواق عدّة، وعدم القدرة على تحقيق ربحية جعلت رحلة “سويفل” مثالاً صارخاً على أن الإدراج عبر SPAC قد يفتح الباب بسرعة، لكنه لا يضمن البقاء في القمة. ومع أن سهمها ما يزال يُتداول اليوم عند نحو 4.2 دولار، إلا أن الفارق عن لحظة الانطلاق يوضح حجم التحدي.


تجارب سويفل وأنغامي ولوسيد تثبت أن الـSPAC قد يكون تذكرة دخول إلى البورصة العالمية، لكنه ليس ضمانة للاستمرار أو النجاح.

 

أنغامي: الموسيقى مستمرة رغم التذبذب
على عكس سويفل، بدت قصة أنغامي أكثر استقراراً، ولو أنها لم تخلُ من مطبات. إدراج الشركة في فبراير 2022 بعد اندماج بقيمة 220 مليون دولار مع “فيستاس ميديا أكوزيشن كومباني” شكل لحظة رمزية فارقة، حيث كانت أول شركة تكنولوجيا عربية تُدرج على “ناسداك”.
قفز السهم في أول أيام التداول بأكثر من 80%، لكن سرعان ما انعكس المسار ليتأرجح بين ارتفاعات وهبوطات حادة. ورغم الضغوط، واصلت أنغامي توسيع قاعدة مشتركيها (أكثر من 70 مليون مستخدم مسجل)، وأبرمت شراكات مع عمالقة مثل “سوني” و”وارنر” و”يونيفرسال”. أداء السهم لم يمنح المستثمرين عوائد مبهرة، لكنه أيضاً لم يلغِ حقيقة أن أنغامي أثبتت قدرة على البقاء والتكيف وسط منافسة ضارية مع “سبوتيفاي” و”ديزر”.

اقرأ أيضاً: خريف شركات “الشيك على بياض” يصل للشرق الأوسط

لوسيد: بين الدعم السعودي والامتحان الأميركي
أما تجربة “لوسيد موتورز” للسيارات الكهربائية، فقد حظيت بدعم استثنائي من صندوق الاستثمارات العامة، الذي ضَخ نحو 1.5 مليار دولار عبر شركة “أيار للاستثمار”. ومثل إدراجها في 2021 من خلال اندماج مع شركة استحواذ لأغراض خاصة “تشرشل كابيتال” أحد أكبر صفقات الـSPAC في وول ستريت، ورفع التقييم إلى نحو 24 مليار دولار عند الطرح.
لكن بريق البداية تراجع لاحقاً. السهم هبط من ذروته فوق 55 دولاراً إلى أقل من 6 دولارات خلال 2024، متأثراً بديناميكية الإنتاج والتأخر في تسليم السيارات الكهربائية. ورغم ذلك، ما تزال لوسيد “صامدة” بفضل التمويل السعودي، بما يجعلها استثناءً عن الكثير من الـSPACs.

ما الحل لتجنب المخاطر؟

ربما يكون طوق النجاة الأهم لهذه الشركات هو وضع قيود تنظيمية وتطبيقها بحزم على أرض الواقع. ففي الولايات المتحدة مثلاً، فرضت هيئة الأوراق المالية والبورصات تعديلات جديدة تعزز حماية المستثمرين، بما يشمل متطلبات إفصاح صارمة وإطارات زمنية محددة لإتمام الصفقات، وهو ما قلل من حالات الفشل المفاجئ.

وفي المنطقة العربية، بدأت التجربة تأخذ شكلاً أكثر وضوحاً، إذ وضعت أبوظبي إطاراً تنظيمياً لها منذ 2021، ومصر حددت رأس المال التأسيسي وإجراءات الطرح منذ فبراير 2025، ما ساعد شركات مثل “كاتليست بارتنرز” على إدراج ناجح مع الحد من المخاطر التشغيلية والقانونية.

وتظهر تجارب مثل “أنغامي” و”سويفل” تظهر أن التزام الشركات بالإطار التنظيمي يمكن أن يمنحها فرصة للبقاء والتكيف، بينما أي تجاوز لهذه المعايير غالباً ما يقود إلى خسائر ثقيلة.

في هذا الصدد، يشير مصطفى موسى (المحامي المصري) إلى أن الجدل حول التقييم للشركات الناشئة سيظل موجوداً سواء داخل مصر أو خارج مصر، وبين المؤسسين والمستثمرين، ولكن الضوابط التي وضعتها الرقابة المالية هل الحل لحسم هذا الجدل، إذ تلزم الشركات بقيود التقييم الصارمة الواردة في القواعد المالية المصرية لتجنب هذا النوع من المشكلات.

كيف يبدو مستقبل شركات الشيك على بياض في المنطقة العربية؟

يبدو مستقبل هذه الشركات في المنطقة العربية غامض حتى الآن، خاصة وأنه لم يمر وقت طويل منذ أزمتها الأخيرة وما تزال خسائرها حاضرة في الأذهان، لكنه مع ذلك لا يخلو من الفرص، بحسب تحليلات بلومبرغ و”SPAC Analytics”. ففي المنطقة العربية، مع نمو التكنولوجيا المالية واهتمام الصناديق السيادية في السعودية والإمارات بتمويل الشركات الناشئة، يبدو هناك مجال لتطور “SPACs” بشكل مدروس، خاصة إذا ارتبط الإدراج بأهداف واضحة واستراتيجيات تشغيلية واقعية.

قال أحمد شحاذة، الشريك الإداري في مؤسسة “صدارة كابيتال” في تصريحات لـ”الشرق” إن بنوك وول ستريت تعيد التفكير في دخول المنطقة العربية حالياً بعد أن جمعت أكثر من 160 مليار دولار في الولايات المتحدة وحدها. وأضاف أن سوق أبوظبي كانت في طليعة من طرح هذا الإطار الجديد، بعد صدور تشريعات شجعت شركات المنطقة مثل “غلف كابيتال” و”القابضة ADQ” و”مبادلة” التي درست دخول قطاع شركات الشيك على بياض، وتوقع أن تدخل بنوك كبيرة قريباً في هذا القطاع قريباً بالمنطقة.




مع ذلك، يبقى القلق قائماً حول تضارب المصالح بين الرعاة والمستثمرين، وعدم وضوح هوية الشركة المستهدفة في مرحلة مبكرة، وهو ما يتطلب وعياً ومتابعة دقيقة من المستثمرين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *