اخر الاخبار

السياسة والاقتصاد والأسواق.. معضلة ثلاثية الأبعاد في 2025

في الفيزياء، تعكس مسألة “الأجسام الثلاثة” استحالة التنبؤ بمسارات ثلاث كتل مستقلة بسبب الطبيعة الفوضوية لتفاعلاتها وفقاً لقوانين نيوتن للحركة والجاذبية. وبالنسبة للمتداولين والمستثمرين، فإن التداخل بين السياسة والاقتصاد والأسواق يجعل تحليل مسارات الأسهم والسندات والسلع والعملات هذا العام أكثر صعوبة من المعتاد.

انتخاب دونالد ترمب يجلب تقلبات غير مرحب بها إلى عملية صنع السياسات الأميركية، حيث أصبح كل شيء يبدو أكثر غموضاً، بداية من التجارة إلى اللوائح التنظيمية، وحتى العملات المشفرة. وفي حين يواصل المستهلك الأميركي تحدي التوقعات بإبقائه على الحركة في أكبر اقتصاد في العالم، تبدو الاقتصادات الأخرى أقل صلابة. وتبدو الرسالة الأساسية لاستقبال عام 2025، هي: “استعدوا لموجة من التقلبات الحادة”.

الاحتياطي الفيدرالي كان كياناً صامتاً في 2024

في مثل هذا الوقت من العام الماضي، توقع متداولو العقود المستقبلية أن يتخذ مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي خطوات جريئة لخفض أسعار الفائدة بهدف التصدي لخطر الركود، لكن التيسير النقدي لم يتحقق على النحو المرتقب.

نفس الأمر حدث في 2023، حيث تحطمت الآمال بخفض تكاليف الاقتراض بسبب تركيز الاحتياطي الفيدرالي على كبح التضخم. فهل سيكون هذا العام مختلفاً؟

لم يكن الاحتياطي الفيدرالي بحاجة لاتخاذ إجراءات قوية العام الماضي، ليس بالقوة المتوقعة على الأقل، إذ أظهر الاقتصاد الأميركي مرونة غير متوقعة، مع تلاشي القلق بشأن الركود بين المحللين. وربما يكون صانعو السياسات الأميركيون بنفس القدر من الهدوء في 2025، أو قد تؤدي سياسة ترمب في ولايته الثانية إلى رد فعل أكثر استباقية، سواء في اتجاه التشديد أو التيسير.

أسواق الأسهم تحقق أرقاماً قياسية جديدة

اقتربت القيمة السوقية للأسهم العالمية الشهر الماضي من 128 تريليون دولار، مسجلةً رقماً قياسياً بعد ارتفاعها 12% خلال عام 2024. ارتفعت القيمة السوقية لشركات أميركية مثل “أبل” (قيمتها السوقية 3.8 تريليون دولار بزيادة 31% خلال العام الماضي)، و”إنفيديا” (قيمتها السوقية 3.37 تريليون دولار بزيادة 178%)، و”مايكروسوفت” (3.16 تريليون دولار بزيادة 13%)، و”أمازون دوت كوم” (2.33 تريليون دولار بزيادة 46%)، و”ميتا بلاتفورمز” (1.5 تريليون دولار بزيادة 67%)، بشكل لافت. هذه المكاسب قد تكون مدفوعة بضجة مبالغ فيها بشأن آفاق الذكاء الاصطناعي. ومع ذلك، حققت المؤشرات الرئيسية في اليابان وإسبانيا وهونغ كونغ مكاسب تتجاوز 14%، وحتى مؤشر “داكس” الألماني، الذي يعاني من الركود، ارتفع بنسبة 19%.

شهدت الأسواق تغييرات في مواقف بعض المتشائمين الدائمين المعروفين بـ”الدببة” تجاه السوق. ففي الشهر الماضي، أشار ديفيد روزنبرغ إلى “حسرة دب أدرك أن السوق رغم فرط نشاطها قد لا تكون بهذا القدر من اللامنطق في نهاية المطاف”.

وفي نوفمبر، تحولت شركة “جيه بي مورغان” إلى التنبؤ بمكاسب لمؤشر “إس آند بي 500″، بعد عامين من التوقعات المتشائمة الخاطئة، وغادر كبير محلليها الاستراتيجيين للأسواق العالمية ماركو كولانوفيتش الشركة في يوليو. كما أشارت “سيتي غروب” الشهر الماضي إلى أن استسلام البائعين على المكشوف للرهانات الهبوطية جعل مراكز المستثمرين في العقود الآجلة للمؤشر “أحادية الجانب تماماً”. وسيكون من الجرأة لأي مدير محفظة أن يراهن ضد مزيد من المكاسب في سوق الأسهم هذا العام، حتى وإن ثبت لاحقاً أن آفاق الذكاء الاصطناعي مبالغ فيها.

عملة ترمب.. مشكلتكم أنتم

يصعب تحديد المحرك الرئيسي للدولار هذا العام، وربما تدور منافسة قوية على ذلك بين الخطاب الذي تستخدمه إدارة ترمب، بشأن انتقاد قوة الدولار ومطالبة دول مجموعة “بريكس” بالاعتراف بسيادته في نفس الوقت، وبين سياسات الاحتياطي الفيدرالي. ومع أن تخفيض أسعار الفائدة الأميركية بشكل إضافي ليس مضموناً، فإن بقية العالم سيضطر لتدبر أموره بنفسه وسط واقع ارتفاع مؤشر الدولار بنسبة 6.5% العام الماضي.

تضع قوة الدولار المتزايدة ضغوطاً هائلة على الدول الفقيرة بالموارد، التي تضطر إلى سداد تكاليف السلع المقومة بالدولار باستخدام عملاتها الضعيفة. وفي ظل المخاوف الكبيرة بشأن الرسوم الجمركية المتوقعة، يظل السؤال حول مصدر أي تخفيف لهذه الأعباء دون إجابة واضحة. وكما قال جون كونالي، وزير الخزانة الأميركية في عهد ريتشارد نيكسون، في عام 1971: “إنها عملتنا، لكنها مشكلتكم”.

سلعة واحدة تحكم الجميع

إذا كان هناك مؤشر واحد فقط يمكن الاعتماد عليه لتقييم الوضع العام للاقتصاد العالمي، فإن أسعار النفط هي الخيار الأمثل. فعادةً ما تتأثر أسعار النفط بالعوائق اللوجستية التي تطرأ أو بقوة الطلب من الصين أو الهند. ورغم استمرار الطلب القوي، إلا أن هذا العامل أصبح أقل أهمية حالياً، وظهر متغير جديد بديل يتمثل في فائض المعروض من الأميركتين، الذي لم يأتِ فقط من التكسير الهيدروليكي في حوض بيرميان، بل أيضاً من زيادة الإنتاج في دول أميركا الجنوبية مثل البرازيل وغيانا وفنزويلا. علاوة على ذلك، فإن تحول الصين إلى السيارات الكهربائية وزيادة اعتمادها على الطاقة النووية والغاز يمثلان تغيرات دائمة قد تعيد تشكيل معادلة السوق.

لا تزال الأوضاع الجيوسياسية في الشرق الأوسط وأوكرانيا وغيرها من المناطق الساخنة تشكل تحديات مستمرة. ومع ذلك، فإن عدم قدرة تحالف “أوبك+” على فرض قيود فعالة على الإنتاج يعني عدم وجود خطوط دفاع واضحة لأسعار النفط الخام. وكما أوضح زميلنا في “بلومبرغ” خافيير بلاس، فإن هذه القيود قد تشكل تحديات خاصة لكازاخستان هذا العام، حيث تسعى الدولة الواقعة في آسيا الوسطى إلى استغلال قدرات الإنتاج الإضافية الناتجة عن مشروعها الذي استمر لعقد كامل وتكلف 45 مليار دولار لتوسيع أكبر حقولها النفطية.

فروق الائتمان.. لا تُرى شراً ولا تخشى شراً

في ظل استمرار أسواق الأسهم الأميركية في تحقيق مستويات قياسية جديدة، ومع ما يبدو من قوة راسخة للنمو الاقتصادي والدولار، يسود شعور عام بأن الأمور تسير بسلاسة. فالأسواق تُسعّر على أساس الكمال، ويتجلى ذلك بوضوح عند تحليل فروق العائد بين السندات الحكومية وسندات الشركات.

لم تكن فروق العائد للشركات ذات التصنيف الائتماني “بي بي” (BB) أو أقل بهذا الانخفاض منذ عام 2006، وهي فترة اتسمت بتجاهل المخاطر بشكل ملحوظ، لكن الوضع هذه المرة يبدو مختلفاً. فأرباح الشركات تشهد نمواً ملحوظاً، وهناك مؤشرات على احتمال انخفاض أسعار الفائدة، بينما التضخم يبدو تحت السيطرة نسبياً، والاقتصاد يظهر صلابة. ورغم وجود مؤشرات على ظهور فقاعات في بعض فئات الأصول، لا سيما في القطاع المصرفي والتبغ والديون المرتبطة بصناعة السيارات، تبقى فروق العائد واحدة من أهم مقاييس السوق التي يجب مراقبتها لفهم حالة الاقتصاد الحقيقي.

المعدل الجديد للديون الحكومية

انقضت أيام العوائد الصفرية أو حتى تلقي الأموال مقابل الاقتراض بمعدلات سلبية، وأصبحت جزءاً من الماضي. ويبدو أن متوسط عائد السندات الحكومية لأجل 10 أعوام في دول مجموعة السبع يستقر حالياً عند نحو 3%، وهي النسبة التي كانت شائعة بين عامي 2004 و2014، وهذا يعادل ضعف المتوسط الذي تمتعت به الدول خلال العقد الماضي.

يبلغ العائد الحالي على سندات الخزانة الأميركية لأجل 10 أعوام حوالي 4.5%. وتشير توقعات الاقتصاديين الذين استطلعت “بلومبرغ” آراءهم إلى أن هذا المعدل سيظل مستقراً إلى حد ما خلال الأرباع القادمة، على أن ينخفض قليلاً ليصل إلى 4.1% بنهاية العام.

ومع ذلك، فإن مسار العائد سيكون مهماً بقدر أهمية الوجهة النهائية، فقد تراوحت النسبة بين 3.6% و4.7% العام الماضي، بعد تقلبات بلغت 170 نقطة أساس في عام 2023. وعلى ما يبدو، فإن الاستقرار الذي يتوقعه الاقتصاديون قد يكون صعب المنال في الوقت الراهن.

هل ما زلنا نخوض الحرب السابقة؟

من الجيد القول إن الارتفاع الجامح في أسعار المستهلك قد تم احتواؤه، وإنه يجب أن تتحول البنوك المركزية إلى التركيز أكثر على ضعف النمو، لكن الحقيقة أن التضخم لم يُهزم تماماً بعد. بالنظر إلى المستقبل باستخدام مؤشر توقعات السوق المفضل للبنوك المركزية، بسبب ارتباطه بتداولات تتمتع بسيولة معقولة، تتضح صورة دقيقة حول مدى النجاح المتوقع للسياسات النقدية في تحقيق هدف التضخم البالغ 2%.

تشير سوق المقايضات إلى أن البنك المركزي الأوروبي لا يواجه تحديات كبيرة فيما يتعلق بالتضخم، بينما يظل بنك إنجلترا أمام مهمة شاقة لحل مشكلاته. الأمر اللافت هو أنه على الرغم من استمرار الاقتصاد الأميركي في تحقيق مفاجآت إيجابية، فإن الاحتياطي الفيدرالي لا يمكن اعتباره يقف في مواجهة تضخم عنيد. ومع ذلك، يبقى أن نرى ما إذا كانت مصداقية صناع السياسات تضررت بشكل لا يمكن إصلاحه بسبب ارتفاع الأسعار خلال الأعوام الأخيرة.

التصنيع بعد الجائحة يعاني ركوداً

غالباً ما يُنظر إلى قطاع التصنيع باعتباره المقياس الأفضل لتقييم صحة الاقتصاد. وإذا استمر هذا المعيار كمرجع، فمن الواضح أن خمسة من أكبر اقتصادات العالم تواجه تحديات كبيرة مع تلاشي تأثير التحفيز المالي الذي طُبق أثناء الجائحة.

ليس هناك مكان يعاني بنفس قدر ألمانيا وفرنسا، حيث يرجع ذلك بشكل كبير إلى الأداء الباهت للاقتصاد الصيني، بينما تستمر تكاليف الطاقة المرتفعة في لعب دوراً رئيسياً في تفاقم الأزمة. وسيكون إيجاد مخرج من هذه الأزمات المهمة الأكثر إلحاحاً للاتحاد الأوروبي في عام 2025.

إلى أين تتجه “بتكوين”؟

“بتكوين تصل إلى 100 ألف دولار، لكن، بعد وجودها لمدة 15 عاماً، لا تزال تفتقر إلى استخدامات مشروعة”، هذا ما كتبه الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل، بول كروغمان، على منصة “بلوسكاي” الشهر الماضي، بعد أن سجلت العملة المشفرة رقماً قياسياً جديداً، متجاوزة 100 ألف دولار لأول مرة. إنه محق، فعلى الرغم من الارتفاع الكبير في قيمتها خلال الأشهر الأخيرة، لا يزال عالم العملات المشفرة يبدو وكأنه حل يبحث عن مشكلة، ويستمر إلى حد كبير ملعباً للمحتالين وغاسلي الأموال.

الارتفاع الأخير في قيمة “بتكوين” له على الأقل مبرر واضح، إذ تعززت الآمال بأن تكون إدارة ترمب أكثر دعماً لمحاولات العملات المشفرة للحصول على اعتراف رسمي بها كأصول ذات قيمة. وقد ازدادت هذه التوقعات مع تعيين بول أتكينز رئيساً جديداً لهيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية، حيث يُنظر إليه على أنه أكثر انفتاحاً على هذا القطاع مقارنة بسلفه غاري غينسلر.

ومع ذلك، من غير المرجح أن تخزن الولايات المتحدة احتياطيات من “بتكوين”، وهي فكرة طرحها الرئيس المنتخب أثناء حملته الانتخابية ووُصفت في افتتاحية “بلومبرغ” بأنها ربما “أكبر عملية احتيال في عالم العملات المشفرة حتى الآن”، لكن البيئة التنظيمية على الأرجح ستصبح أقل عدائية.

ومع ذلك، تظل الروابط بين العملات المشفرة وأي أساسيات تدعم قيم الأصول الواقعية ضعيفة في أحسن الأحوال، إن لم تكن غائبة تماماً في أسوئها، مما يجعل أي محاولة للتنبؤ بمستقبل تداول “بتكوين” مجرد ممارسة عبثية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *