الذهب تحت رحمة ترمب والصين والدولار الملك
أفضل علاج لارتفاع الأسعار يكون غالباً المزيد من الارتفاع، وهذا الدرس يتعلمه الذهب من خلال التجارب القاسية.
منذ أن أصبح احتمال رئاسة دونالد ترمب للولايات المتحدة لدورة ثانية حقيقة واقعة، تلقى المعدن البراق ضربة مزدوجة. وقد يبدو انخفاضه بقيمة 220 دولاراً للأونصة، أو 8%، منذ نهاية أكتوبر طفيفاً في سياق أنه لا يزال مرتفعاً بأكثر من 25% هذا العام. غير أن خسارة الزخم مهمة وكبيرة، حيث لم يعد الذهب يواصل الارتفاع مرة بعد أخرى. ويبقى استئناف ذلك الارتفاع مسألة غير محسومة.
شهدت تداولات “أميركا أولاً” هروباً من الأصول الآمنة إلى الأصول الأكثر خطورة، وبشكل رئيسي تلك المقومة بالدولار. فلم يبد أن الذهب مبالغ في قيمته بعد ارتفاعه إلى مستوى قياسي هذا العام فحسب، بل فوق ذلك، أصبح سعره بالدولار أغلى بنسبة 5% للمستثمرين غير الأميركيين.
وفي نوفمبر الجاري، تجاوزت الأموال الخارجة من صندوق الذهب الرئيسي المتداول في البورصة بالولايات المتحدة 1.4 مليار دولار، أو حوالي 20 طناً مترياً. وفي غضون ذلك، لم يضف البنك المركزي الصيني أي كمية إلى مخزونه البالغ 2264 طناً خلال الأشهر الستة الماضية، وفقاً لمحللي “كوميرس بنك” (Commerzbank). ويبدو أنه تردد في ذلك ببساطة بسبب الأسعار بالغة الارتفاع.
علاوة على ذلك، ربما كان أفضل مؤشر على طلب المستهلكين الأفراد على الذهب في الصين هو بيانات إدارة الجمارك الفيدرالية السويسرية، وقد أظهرت أن أغسطس الماضي كان أول شهر لم يشهد تصديراً للذهب إلى الصين منذ أكثر من ثلاث سنوات.
ثلاثة أسباب وراء تعثر الذهب
استخلص محللو “دويتشه بنك” (Deutsche Bank) بقيادة جورج سارافيلوس ثلاثة استنتاجات من تعثر الذهب. أولها، بغض النظر عن فوز ترمب، أن الأسواق لا تشعر بالقلق إزاء مخاطر الائتمان في الولايات المتحدة. وقد تجلى ذلك في تقلص الفرق بين العائد على سندات الشركات والسندات عالية المخاطر.
وتراجعت المخاوف بشكل غريب من زيادة العجز المالي أو القلق بشأن استقلالية الاحتياطي الفيدرالي الأميركي. وفي ذلك تغيير كبير عما ساد قبل الانتخابات، والذي كان محركاً رئيسياً لارتفاع أسعار الذهب.
ثانياً، يتراجع طلب البنوك المركزية الأجنبية على احتياطي الذهب لأن “كثيراً منها الآن تحتاج إلى استخدام احتياطياتها من الدولار في الدفاع عن عملاتها ضد تدفق رأس المال إلى الخارج” بسبب ارتفاع قيمة العملة الأميركية، بحسب “دويتشه بنك”.
وربما يؤثر ذلك على الصين أكثر من غيرها –مع أنها على الأقل تمتلك مخزون ذهب كبير للأيام العصيبة. غير أن ذلك لا ينطبق على الجميع. فقد تراجع مؤشر “إم إس سي آي” (MSCI) الأوسع نطاقاً لعملات الأسواق الناشئة بنحو 3% منذ نهاية سبتمبر، وخسر جميع المكاسب التي حققها خلال هذا العام.
أخيراً، يعتقد محللو “دويتشه بنك” أن بيع الدولار ليس هو واقع الحال مطلقاً في القطاع الخاص على الرغم من أن بعض الكيانات العامة الأجنبية قد تضطر إلى ذلك.
وعلاوة على ذلك، يؤكد هؤلاء المحللون أنه كلما زاد خطر تعرض حكومة ما لعقوبات من الولايات المتحدة، زاد صافي الطلب على الدولار الأميركي. وتستمر سيطرة الدولار بسبب أن جميع الطرق حالياً تؤدي إلى الحفلة الكبيرة الجارية على الأصول الأميركية، وربما كانت “بتكوين” هي الأصل الآخر الذي يحقق أداءً فائقاً بشكل ملحوظ، حيث ارتفعت بنسبة 37% منذ فوز ترمب.
يتجه الطلب المتزايد على الأصول الخطرة بكثافة نحو الولايات المتحدة، غير أن الميزة الهائلة لكون الدولار هو عملة الاحتياطي العالمية تعني أنه يشهد كذلك زيادة في الطلب عليه كملاذ آمن.
صعود الأسهم الأميركية وفشل العالمية
من المهم فهم المشهد الاستثماري المتغير. ويصف محلل مصرف “سوسيتيه جنرال” أندرو لابثورن الأسهم الأميركية بأنها “مرتفعة الثمن بما لا يمكن إنكاره”، لكنه يلاحظ أيضاً أن الحديث عن هذه الأسعار مع المستثمرين “أصبح نادراً بشكل متزايد”.
تمثل الولايات المتحدة حوالي 74% من القيمة السوقية لمؤشر “إم إس سي آي وورلد” للأسهم العالمية، وهو مستوى قياسي مرتفع. ويقول لابثورن إن ذلك “يرجع تقريباً بالكامل إلى علاوة التقييم، والتي بدونها ستمثل الولايات المتحدة ما يقرب من 50% من القيمة السوقية للمؤشر”.
هذه الأسعار تدفعك إلى أن تغمض عينيك وتشتري. بل ينبغي أن نكرر أن بقية العالم لا تمثل سوى ربع القيمة السوقية للأسهم العالمية. وعلى حد تعبير غور فيدال: “لا يكفي أن تنجح. وإنما يجب أن يفشل الآخرون أيضاً”.
يعتقد مايكل كيلي، رئيس استراتيجيات الأصول المتعددة في شركة “باين بريدج إنفستمنتس” (Pinebridge Investments)، أن ترمب يسبب مشاكل في كل مكان، “وأن أوروبا هي التي تحمل فوق رأسها علامة التصويب التي يقصدها الرماة في جميع مشاكل التجارة”، كما يقول.
علاوة على ذلك، ستؤدي السياسات التي تطبقها الصين في أفضل الأحوال “إلى تهدئة وتيرة تباطؤ الاقتصاد، ولكنها لن تحوله إلى الوجهة الأخرى. لذا فإن الشركات أو الدول التي تعتمد على التصدير إلى الصين ستعاني كثيراً”، والمصدرون الأوروبيون هم الأكثر عرضة للخطر إذا اندلعت حروب الرسوم الجمركية.
عوامل تحرك أسعار الذهب
إن الدولار وتوقعات التضخم وأسعار الفائدة هي المحركات التاريخية الثلاثة الكبرى لأسعار الذهب، وفقاً لكريس واتلينغ، مؤسس شركة “لونغ فيو إيكونوميكس” (Longview Economics). لذا فإن تراجع توقعات التضخم لا يدعم ارتفاع الذهب. فعلى الرغم من زيادة أسعار المستهلكين في الولايات المتحدة في أكتوبر، كانت سوق سندات الخزانة هادئة جداً، مما رفع التوقعات بخفض آخر لأسعار الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس من جانب الاحتياطي الفيدرالي في ديسمبر.
ومع ذلك، بدا رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول أقل حماساً تجاه الحاجة إلى خفض متتالٍ لأسعار الفائدة في خطابه الأخير، مما يجعل التوقف المؤقت في أوائل العام المقبل يبدو محتملاً للغاية.
مع اقتراب عوائد سندات الخزانة الأميركية لأجل 10 سنوات من 4.5%، محققة عائداً قوياً يزيد عن 2% بالقيمة الحقيقية بعد خصم تأثير التضخم، لا يصبح بريق الذهب جاذباً إلى هذه الدرجة عندما لا يدر أي دخل بالإضافة إلى تكلفة التخزين. تتغير البيئة الاقتصادية فجأة من كونها داعمة للذهب إلى معاكسة له.
ولا يزال محللو “غولدمان ساكس غروب” متفائلين، ويتوقعون أن يصل المعدن الأصفر إلى 3000 دولار للأونصة بحلول نهاية 2025، مدفوعاً بعودة مشتريات البنوك المركزية وخفض أسعار الفائدة من قبل الاحتياطي الفيدرالي الأميركي. ويرون أن إدارة ترامب، التي تسعى إلى زيادة الرسوم الجمركية وربما تؤدي سياستها إلى تفاقم العجز المالي، ستفيد الذهب على المدى الطويل.
لا يمكن توقع ما يفعله ترمب. وسوف يظل للذهب استخداماته الدائمة، لكن الأمر قد لا يحتاج إلا إلى نهج أكثر اجتراءً على خفض أسعار الفائدة من قبل الاحتياطي الفيدرالي يضعف الدولار بشكل ملموس فتشتعل أسعار الذهب من جديد. ومع ذلك، ستظل حظوظه تعتمد في النهاية على احتياجات الصين ونزواتها.