اخر الاخبار

الجمارك ليست الخطر الوحيد.. نمو الاقتصاد الأميركي مهدد في عهد ترمب

يُتوقع أن تؤدي أحدث موجة من الحرب التجارية التي يشنها الرئيس دونالد ترمب، وتعد أضخم حزمة من الإجراءات الحمائية الأميركية منذ ثلاثينيات القرن الماضي، إلى كبح جماح نمو الاقتصاد الأميركي في المدى القريب. لكنها مجرد إحدى الصدمات التي تتراكم على المستهلكين والشركات والمستثمرين الذين يتزايد قلقهم باستمرار.

وهناك أيضاً سعي إيلون ماسك إلى خفض عدد الموظفين الفيدراليين، وتشديد إجراءات الهجرة، وتباطؤ محتمل في استثمارات الأعمال وسط ضبابية سياسية طاغية. ويشير تزايد الإجماع بين المحللين الاقتصاديين إلى أن اجتماع كل هذه العوامل يرجح تباطؤ أكبر اقتصاد في العالم.

يتوقع قليلون ارتفاع خطر الانكماش المباشر للاقتصاد هذا العام، وهناك أيضاً إجراءات تدعم النمو قيد الإعداد، مثل التخفيضات الضريبية. رغم ذلك، تتزايد المخاوف من حدوث “ركود ترمبي” (Trumpcession)، وتصعيد الحرب التجارية المتبادلة لن يسبب إلا تفاقم هذا الخطر. وقد أعلن ترمب اعتزامه فرض مزيد من الرسوم الجمركية بعد التي فرضها على المكسيك وكندا والصين.

عبء الرسوم الجمركية

قال ترمب أمام الكونغرس الأميركي الثلاثاء الماضي: “الرسوم الجمركية تهدف إلى إثراء أميركا مجدداً وإعادة عظمتها. وهذا ما يحدث. سيكون هناك بعض الاضطرابات، لكننا نتقبل ذلك، فلن تكون كبيرة”.

تشمل الأهداف القادمة للرسوم الجمركية الاتحاد الأوروبي، والسيارات، والأدوية، وأشباه الموصلات، إلى جانب التعريفات الجمركية المتبادلة التي يتوقعها مستشارو ترمب بناءً على الحواجز التجارية المتنوعة على البضائع الأميركية في الخارج، وقد أوضح الرئيس هذا الجزء من خطته أمام الكونغرس بقوله “أياً كانت التعريفات الجمركية التي سيفرضونها علينا، سنفرضها عليهم”.

لكن هذه الموجة شهدت تراجعاً إلى حدٍّ ما الأسبوع الماضي، مع منح الرئيس الأميركي دونالد ترمب إعفاءً للسلع المكسيكية والكندية المشمولة باتفاقية التجارة الأميركية الشمالية المعروفة باسم “USMCA” من الرسوم الجمركية البالغة 25%. رغم ذلك، فإن موجة التعريفات الجمركية تبلغ ذروتها في ظل الإشارات الواضحة على تباطؤ النمو وارتفاع التضخم.

سجل الإنفاق الاستهلاكي في يناير أكبر تراجع منذ حوالي أربعة أعوام، وتراجعت ثقة المستهلكين، كما تباطأ نشاط التصنيع الأميركي الشهر الماضي، بينما ارتفع مؤشر الأسعار المدفوعة للمواد إلى أعلى مستوى منذ يونيو 2022.

يحذر المحللون من الإفراط في الاعتماد على بيانات شهر واحد، بالأخص الذي تأثر بطقس قاسٍ. وتكهنت أداة “جي دي بي ناو” (GDPNow) للتوقعات الفورية التابعة لبنك الاحتياطي الفيدرالي في أتلانتا يوم الإثنين بانكماش الاقتصاد خلال الربع الأول بنسبة 2.8%، إلا أنه توقع يخالف الاتجاه السائد، إذ لا تشير معظم المؤشرات إلى انكماش حاد.

أوضح الرئيس التنفيذي لبنك “غولدمان ساكس” ديفيد سولومون في مؤتمر في سيدني يوم الثلاثاء أن هناك احتمالاً “ضئيلاً للغاية” لأن ينزلق الاقتصاد الأميركي إلى الركود.

ترمب يريد “إصلاحاً جذرياً”

يرى ترمب وفريقه حاجة ماسة إلى إجراء إصلاح جذري شامل لإعادة بناء الصناعات الأميركية التي تدهورت نتيجة عقود من عجز الميزان التجاري، ولإعادة وظائف التصنيع ذات الأجور المجزية إلى البلاد. من جهته، اعترض وزير الخزانة الأميركية سكون بيسنت على المخاوف من تداعيات الرسوم الجمركية وما سببته من تراجع الأسواق العالمية، حيث انخفضت أسعار الأسهم في جميع أنحاء العالم، وكاد مؤشر “إس آند بي 500” أن يتخلى عن كل مكاسبه التي حققهها بعد الانتخابات الرئاسية.

قال بيسنت لقناة “فوكس نيوز” يوم الثلاثاء: “سنعيد موازنة الاقتصاد. وفي المدى المتوسط، الذي ينصب عليه تركيزنا حالياً، يشكل الاقتصاد الحقيقي محور اهتمامنا. حققت (وول ستريت) نجاحاً كبيراً، وبمقدورها مواصلة الأداء الجيد، لكن علينا التركيز على الشركات الصغيرة والمستهلكين”.

ستشعر الفئتان بتأثير الضرائب الجديدة المفروضة على واردات أميركية بحوالي 1.5 تريليون دولار، أي ما يزيد عن خمسي إجمالي الواردات. وفي يوم الثلاثاء، وصل متوسط الرسوم الجمركية الأميركية إلى أعلى مستوى منذ أربعينيات القرن الماضي.

ركود الاقتصاد الأميركي

يكفي هذا وحده لرفع احتمال حدوث فترة من الركود التضخمي، أي تباطؤ النمو الاقتصادي وارتفاع التضخم، بحسب مايفا كوزين ورانا ساجدي من “بلومبرغ إيكونوميكس”، إذ كتبتا: “ستمثل هذه الرسوم الجمركية صدمة عرض سلبية على الاقتصاد الأميركي”.

تشير التقديرات المعتمدة على النماذج التي استخدمها الاحتياطي الفيدرالي خلال فترة ترمب الأولى إلى أن صدمة الرسوم الجمركية الحديثة قد تسبب تراجع الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة 1.3%، وترفع معدل التضخم الأساسي 0.8%.

توقع المحللون الاقتصاديون لدى مركز بحوث “بدجت لاب” (Budget Lab) التابع لجامعة ييل حدوث صدمة في النمو بنحو نصف هذه النسبة خلال 2025، إلا أنهم حذروا من آثار طويلة الأمد قد تستمر لسنوات. وحتى بعد التغييرات في الإنتاج وإعادة هيكلة سلاسل التوريد، ستؤدي أحدث رسوم جمركية يفرضها ترمب، ورد الدول الأخرى عليها إلى تراجع الناتج المحلي الإجمالي 0.4% في المدى الطويل، وكتبوا أن ذلك “يعادل انكماش الاقتصاد الأميركي باستمرار بما يتراوح بين 80 ملياراً و110 مليارات دولار سنوياً”.

قطاع التجزئة الأميركي في خطر

أعلنت شركات بيع التجزئة، مثل “تارغت” و”بيست باي” أنها تتوقع تباطؤ المبيعات بسبب الرسوم الجمركية. وقال الرئيس التنفيذي لـ”تارغت” بريان كورنيل لقناة “سي إن بي سي” إن المتسوقين في متاجر الشركة يتوخون حذراً شديداً بسبب “الحديث المستمر عن الرسوم الجمركية الذي يسمعونه كل ليلة تقريباً في الأخبار”، وبإمكانهم توقع ارتفاع الأسعار خلال الأيام القليلة المقبلة.

وأشار بالأخص إلى منتجات زراعية مثل الفراولة، والأفوكادو، والموز، إذ أن الشركة “تعتمد على المكسيك في جزء كبير من الإمدادات” في الشتاء، كما أن نحو نصف واردات الولايات المتحدة من الفواكه والخضروات، بما يشمل أكثر من 90% من الأفوكادو، مصدره الدولة الواقعة جنوب الولايات المتحدة.

ستطال الرسوم الجمركية الجديدة مرتادي الحفلات ومشتري الملابس أيضاً، فمن بين كل خمس عبوات جعة تدخل الولايات المتحدة، أربع منها تأتي من المكسيك، فيما تمثل الصين مصدراً لنحو 30% من الملابس.

لفت مارك زاندي، كبير المحللين الاقتصاديين لدى “موديز أناليتكس” (Moody’s Analytics)، إلى أن ذلك سيؤدي إلى تحمل تكلفة باهظة، “إذا جرى تطبيق كل التعريفات الجمركية التي أُعلن عنها وهُدد بفرضها واستمر العمل بها، ستضطر الأسرة الأميركية المتوسطة إلى إضافة نحو 1300 دولار إلى إنفاقها السنوي على شراء السلع نفسها مقارنةً بما دفعته العام الماضي”.

هذه العائلات نفسها تلقت ضربة في الآونة الأخيرة من الارتفاع الكبير في تكلفة المعيشة بعد جائحة كوفيد، ما أسهم في انتخاب ترمب بحسب معظم المحللين، وهناك قلق واضح من ارتفاعها مجدداً. كما بلغت توقعات التضخم خلال العام المقبل أعلى مستوى منذ 2023، بينما يشير استطلاع رأي طويل الأجل إلى وصوله إلى أعلى مستوى منذ عقود.

الصناعة الأميركية مهددة

بخلاف التأثير المباشر على إنفاق المستهلكين، هناك مخاطر على الإنتاج الصناعي ووظائف التصنيع أيضاً، إذ تراجع كلاهما في 2019 خلال الحرب التجارية التي شنها ترمب في ولايته الأولى.

كذلك، فإن صناعة السيارات الأميركية، التي تمثل نحو 2.5% من الاقتصاد، معرضة للمخاطر بشكل كبير، الأمر الذي تحذر منه كبرى شركات القطاع مثل “فورد موتور” علنياً، إذ تزايد ارتباط سلاسل التوريد بشكل عميق بكندا والمكسيك خلال العقود الماضية. لذلك، فإن أي اضطراب حتى لو قصير الأجل قد يؤدي إلى انخفاض معدل نمو الناتج المحلي السنوي بمقدار نقطة مئوية، بحسب “سيتي غروب”، إلى جانب احتمال فرض رسوم جمركية منفصلة على السيارات خلال الفترة المقبلة. وأطلع ترمب المشرعين على حديثه مع رؤساء أكبر ثلاث شركات سيارات أميركية يوم الثلاثاء، قبل إلقاء خطابه.

في غضون ذلك، فإن مجرد التهديد بفرض رسوم جمركية على الصلب والألمنيوم اعتباراً من 12 مارس قد أدى بالفعل إلى ارتفاع الأسعار محلياً، ما أفضى إلى زيادة التكاليف على شركات مثل “كالدر برذرز” (Calder Brothers).

تصنع الشركة التي يقع مقرها في غرينفيل، ساوث كارولاينا، معدات الرصف المستخدمة في ممرات السيارات ومواقفها، ويبلغ متوسط سعر بيع التجزئة لمنتجاتها 200 ألف دولار. وإضافة إلى زيادة أسعار الصلب في الآونة الأخيرة، تواجه الشركة ضغطاً من الرسوم الجمركية المفروضة على المكونات المستوردة، مثل صناديق تروس نقل الحركة والصمامات الهيدروليكية. وأشار رئيس الشركة غلين كالدر إلى أنها تدرس زيادة غير معتادة في الأسعار في منتصف العام.

وأضاف: “هذه الرسوم الجمركية تضر بصغار المصنعين الأميركيين في الواقع. هناك قلق كبير مما سيحدث لأسعار كثير من السلع والمنتجات”.

ترحيل المهاجرين

إذا كانت الرسوم الجمركية في مقدمة أولويات مراقبي نمو الاقتصاد الأميركي الآن، فهناك سياسات كثيرة أخرى للإدارة تعد بمثابة إشارات تحذيرية. فيهدد تضييق الخناق على المهاجرين غير الشرعيين، الجاري تنفيذه بالفعل، بالتسبب في فجوة في القوة العاملة لن يكون سدها بسرعة سهلاً، بالأخص في بعض القطاعات الرئيسية مثل اللحوم.

يُرجح ألا يكون التأثير السلبي لعمليات الترحيل التي تجريها إدارة ترمب حتى الآن كبيراً على الاقتصاد، لكن المحللين الاقتصاديين لدى “غولدمان ساكس” يشيرون إلى أن حدوث تباطؤ واسع النطاق في الهجرة، في ظل تراجع صافي عدد الوافدين سنوياً، قد يؤدي إلى تراجع معدل النمو المتوقع بنحو 40 نقطة أساس مقارنةً بالسنوات الماضية.

أدت تسريحات العمالة التي تقودها إدارة الكفاءة الحكومية التي يديرها ماسك إلى إقالة أكثر من 100 ألف موظف فيدرالي، وانطوى ذلك على تبعات غير مباشرة على عديد من المتعاقدين. ربما لا تكفي الإدارة وحدها للتسبب في ركود، لكنها “ترفع مخاطر الركود بطريقتين أساسيتين” عبر التقدم السريع وارتكاب الأخطاء، بحسب المحللة الاقتصادية كلوديا سهم.

وكتبت يوم الثلاثاء: “الطريقة الأولى أن الإدارة تركز الآثار الاقتصادية بشكل مؤقت، والثانية أنها تخلق حالة من الضبابية قد تؤثر سلبياً على النمو والتوظيف”، وهذا في ظل تباطؤ النمو بالفعل، واستمرار أسعار الفائدة المرتفعة، وتزايد الرسوم الجمركية.

هل تأتي سياسات ترمب بثمارها؟

أقر ترمب بأن الأميركيين قد يواجهون “بعض الصعوبات” نتيجة الحرب التجارية، لكنه يقول إن المكاسب التي ستحققها أجندته في المدى الطويل ستكون كبيرة. وتشير الحكومة إلى أن الرسوم الجمركية، وتخفيف القيود التنظيمية، والتخفيضات الضريبية التي بدأت مناقشتها في الكونغرس ستشكل معاً حافزاً لانتعاش الاستثمار.

واضح أن السياسة التجارية المتشددة التي تنتهجها الحكومة تؤتي ثمارها؛ فيشير فريق ترمب إلى تعهد “تايوان سيميكوندوكتور مانوفاكتشورينغ”، أكبر شركة لصنع رقائق الذكاء الاصطناعي في العالم، باستثمار 100 مليار دولار إضافية في مصانع في الولايات المتحدة.

ويُعدُّ توفير الطاقة بأسعار منخفضة أحد العناصر الرئيسية في مجموعة السياسات، فهناك دلائل تشير إلى أن ترمب تمكن من إقناع السعودية وروسيا، القوتان النفطيتان، من الاستجابة لدعواته إلى رفع الإنتاج، ما قد يؤدي إلى انخفاض الأسعار في محطات الوقود، ويوفر قدراً من الراحة للمستهلكين الأميركيين الذين تضرروا من الرسوم الجمركية.

تنوّه ستيفاني روث، كبيرة المحللين الاقتصاديين لدى شركة البحوث “وولف ريسيرش” (Wolfe Research)، بأن الاقتصاد الأميركي طالما أثبت مرونته، وخالف توقعات الركود، مع ذلك، تتزايد الصدمات التي يسببها ترمب. واختتمت: “إذا كنت تخطط لتنفيذ شيء ما يكون له تأثير سلبي شديد على الاقتصاد، فهذا يكفي”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *