التوجه لتجنب الدولار عالمياً يكتسب زخماً في آسيا

تشهد بنوك وشركات وساطة مالية طلباً متزايداً على المشتقات المرتبطة بعملات تُستخدم بديلاً عن الدولار، في ظل تصاعد التوترات التجارية، ما يعزز وتيرة التحوّل التدريجي بعيد المدى عن العملة الأميركية.
تتلقى الشركات مزيداً من الطلبات لإجراء تعاملات بأدوات تحوط بديلة للدولار، وتدخل فيها عملات مثل اليوان، ودولار هونغ كونغ، والدرهم الإماراتي، واليورو. كما تشهد السوق طلباً على قروض مقومة باليوان، بينما تستعد أحد المصارف في إندونيسيا لتأسيس وحدة مخصصة للتعامل بالعملة الصينية.
في معظم تعاملات سوق الصرف الأجنبي، يُستخدم الدولار كوسيط، حتى عند تحويل الأموال بين عملتين محليتين. على سبيل المثال، تحتاج شركة مصرية ترغب في الحصول على البيزو الفلبيني عادة إلى تحويل الجنيه إلى الدولار أولاً، ثم شراء البيزو بالدولار. لكن الشركات بدأت تعتمد استراتيجيات تلغي دور الدولار كوسيط.
تراجع الثقة في الدولار
تشير هذه المحاولات إلى علامة جديدة على تراجع الثقة في عملة الاحتياطي العالمية، التي تعرضت هذا الأسبوع لموجة من البيع بسبب تغير الرهانات المتعلقة بالاتفاقات التجارية. حذر الخبير الاستراتيجي البارز ستيفن جن، المعروف بنظريته حول “ابتسامة الدولار”، من “انهيار” محتمل بقيمة 2.5 تريليون دولار نتيجة بيع الدولار، ما قد يقوض جاذبيته على المدى الطويل.
أظهر تراجع الدولار هذا الأسبوع مخاوف قصيرة الأجل مرتبطة بالتوترات التجارية التي باتت تسيطر على معنويات السوق. إلا أن التغيرات الهيكلية في كيفية استخدام الدولار، ومن يستخدمه، تشير إلى مسار طويل الأمد نحو فك الارتباط بالدولار.
قال جين ما، رئيس قسم أبحاث الصين في “معهد التمويل الدولي”، إن “زيادة التعاملات بين عملات غير الدولار الأميركي ترجع أساساً إلى التطورات التكنولوجية وزيادة السيولة”. أضاف: “أطراف المعاملات باتوا يشعرون بأن الأسعار قد تكون أفضل دون استخدام الدولار، وبالتالي ارتفعت وتيرة التعاملات بشكل طبيعي”.
ذروة الدولار
أكد موظفون في شركات ومؤسسات مالية آسيوية -طلبوا عدم الكشف عن هوياتهم لعدم السماح لهم بالإدلاء بتصريحات علنية- تسارُع محاولات الالتفاف على الدولار.
قال موظف في شركة تجارة سلع مقرها في سنغافورة إن مؤسسات مالية أوروبية وغيرها باتت تروّج بشكل متزايد لمشتقات اليوان تتجنب العملة الأميركية. وأضاف أن توثيق الروابط التجارية بين الصين وإندونيسيا ودول الخليج يعزز الطلب على أدوات تحوط بعملات غير الدولار، بحسب ما أكده عدد من هؤلاء الأشخاص.
أشار متداول في مؤسسة مالية بسنغافورة إلى أن شركات صناعة السيارات الأوروبية ترفع الطلب على تحوطات باليورو واليوان. وفي إندونيسيا، تستعد مؤسسة مصرفية أجنبية لتشكيل فريق متخصص في جاكرتا هذا العام، لتلبية الطلب المتزايد من عملائها المحليين لتسهيل التعاملات بين الروبية الإندونيسية واليوان، وفقاً لما صرح به أحد التنفيذيين في المؤسسة.
هذا التحول التدريجي بعيداً عن الدولار يقوض أحد أركان التجارة العالمية؛ حيث ظل الدولار لعقود مهيمناً على كل شيء، من تمويل ديون الأسواق الناشئة إلى تسوية الصفقات التجارية. وتُقدر حصة الدولار كعملة وسيطة بنحو 13% من أحجام التداول اليومية، بحسب تقديرات حديثة.
تهديد الدولار قبل ترمب
لكن استخدام الدولار عالمياً كان تحت التهديد حتى قبل نهج دونالد ترمب غير المتوقع تجاه التجارة، والذي أجبر العديد على إعادة التفكير في مكانة العملة الخضراء في النظام المالي العالمي.
تسعى الصين منذ سنوات إلى تعزيز استخدام عملتها عالمياً من خلال توقيع اتفاقات لتسوية المدفوعات مع دول مثل البرازيل وإندونيسيا وغيرها، ودفع استخدام اليوان عالمياً. كما ناقشت مجموعة “بريكس” مسألة تجنب الدولار، بينما زاد الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022 من اهتمام بعض الدول بالابتعاد عن العملة الأميركية، بعدما أثارت العقوبات الغربية على موسكو تساؤلات حول ما إذا كانت العملة قد تحولت إلى أداة ضغط جيوسياسي.
مع ذلك، يرى معظم المشاركين في السوق أن هذا التحول بعيداً عن الدولار سيكون تدريجياً. حتى الآن، لا توجد عملة بديلة واقعية يمكن أن تحل محل الدولار. فقد تراجع استخدام اليورو في المعاملات العالمية خلال العامين الماضيين، وفقاً لبيانات شبكة “سويفت” العالمية للمدفوعات، فيما لا يزال اليوان الصيني عملة ناشئة في التجارة غير المرتبطة مباشرة بالصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
اليوان.. دعامة التجارة الصينية
بلغت حصة اليوان من المدفوعات العالمية نحو 4.1% في مارس، بحسب بيانات “سويفت”، مقارنة بحصة الدولار البالغة 49%. لكن جزءاً من المدفوعات الصينية يتم عبر نظام خاص بها ينمو بسرعة.
وصلت القيمة السنوية للمدفوعات عبر “منظومة الدفع بين البنوك عبر الحدود” إلى نحو 175 تريليون يوان (24 تريليون دولار) في 2024، بمعدل نمو سنوي تجاوز 40%، بحسب بياناتها الرسمية.
كما استخدم المستثمرون والشركات التجارية الصينية اليوان في نسبة قياسية من تعاملاتهم عبر الحدود في مارس.
تسرّع شركات التصدير الصينية وتيرة تحويل إيراداتها من الدولارات إلى اليوان، على عكس اتجاه سابق كان يدفعها للاحتفاظ بالدولارات خشية تراجع سعر صرف اليوان.
ارتفعت صادرات الصين إلى جنوب شرق آسيا بأكثر من 80% خلال السنوات الخمس حتى مارس 2025، فيما تضاعفت الصادرات إلى الإمارات والسعودية، وفق بيانات جمعتها “بلومبرغ”، متجاوزة بمعدلات كبيرة النمو المسجل في الصادرات إلى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
وعلى الرغم من أن أدوات التحوط المرتبطة باليوان غالباً ما تكون أكثر تكلفة من نظيراتها بالدولار، إلا أن أسعار الفائدة المنخفضة على القروض باليوان قد تجعل الكلفة الإجمالية جذابة للمقترضين.
قالت أليشا غارسيا هيريرو، كبيرة الاقتصاديين لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ في “ناتيكسيس” (Natixis): “يمكنك الحصول على تمويل بثلث كلفة التمويل بالدولار”. لكنها استدركت قائلة إن “الرينمينبي يواجه قيوداً بسبب نقص السيولة خارج الصين”.
مخاطر تحيط بقوة الدولار
ارتفعت كلفة التحوط من تقلبات الدولار أمام العملات الرئيسية خلال العام الماضي، مع قفزات قبيل الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر، ومرة أخرى في أبريل. كما زاد الطلب بين المتداولين في سوق الخيارات على أدوات تحوط ضد تراجع الدولار. وتراجع مؤشر “بلومبرغ” لقياس أداء العملة الأميركية بنحو 6% هذا العام، مع تصاعد المخاوف من تداعيات التوترات التجارية.
تظهر التقلبات المرتبطة بالرسوم الجمركية أن التراجع في مكانة الدولار لا يأتي فقط من الصين ودول كبرى أخرى، إذ أرسل ترمب إشارات متضاربة بشأن العملة، رغم انتقاده مراراً لقوتها. كما عيّن الخبير الاقتصادي ستيفن ميران في منصب بارز، وهو من دعاة إعادة تشكيل جذرية للنظام العالمي القائم على الدولار.
أسهمت سياسة ترمب التجارية، واستعداده الظاهري للتخلي عن الأعراف القديمة، وانتقاداته المتكررة للاحتياطي الفيدرالي، في تعزيز الانطباع بأن الهيمنة العالمية للدولار تواجه أكبر تهديد لها منذ عقود.
كتب محللو “دويتشه بنك”، بينهم أوليفر هارفي، في مذكرة حديثة: “بالنظر إلى قوة بقاء الدولار اللافتة، يبدو أن إزاحته تتطلب تحولات كبرى في البيئة الدولية”. أضافوا: “لكن ثمة مخاطر متزايدة بأن مثل هذه التحولات تحدث فعلاً”.