اخر الاخبار

التحالف بين تركيا والعراق وسوريا.. أزمات الماضي وفرص المستقبل

بقلم: رياض النزال
أثار تصريح السفير الأميركي في أنقرة والمبعوث الأميركي إلى سوريا، مارتن باراك، حول “أفول زمن التدخل الغربي في الشرق الأوسط” وتسميته اتفاقية تقسيم المنطقة، سايكس-بيكو، إشارات سياسية بالغة الدلالة. فرغم غياب إعلان رسمي برفض تقسيم جديد للمنطقة، إلا أن الموقف الأميركي بدا حريصاً على ترسيخ الاستقرار الجيوسياسي كشرط أساس لتفعيل فرص الاستثمار الاقتصادي، إلى جانب احتفاظ واشنطن بدور المحور الرئيسي في إدارة توازنات المنطقة التي أثقلها إرث عقود من صراعات النفوذ بين القوى العالمية.

حلف بغداد وتحالف المصالح

في الخمسينيات خلال الحرب الباردة أوكلت الولايات المتحدة البعيدة عن الشرق الأوسط آنذاك لبريطانيا إقامة حلف “بغداد” الذي جمع العراق مع إيران وباكستان وتركيا ليقف في وجه التمدد السوفيتي الذي بدوره أوعز لقيادات مصر وسورية برفض الدخول في الحلف ومعاداته. لكن عقد التحالف انفرط بعد انسحاب العراق (المؤسس للحلف مع تركيا) إثر الانقلاب على الملكية.

الآن بعد أكثر من نصف قرن تعود المصالح لتمهد لتحالف جديد في المنطقة بين أنقرة وبغداد ودمشق بدأت بوادره مبكراً حيث كان من الملفت أن توجه أولى الرسائل المباشرة التي وجهتها قيادة عملية ردع العدوان خلال تحرير سوريا من نظام الأسد إلى رئيس الوزراء العراقي لدعوة القيادة العراقية لعدم التدخل في الوضع السوري

والتذكير بالعمق التاريخي والجغرافي بين سوريا والعراق.
أعقبت ذلك زيارات متبادلة بين القيادة الجديدة والقيادة العراقية والتي توجت بلقاء الرئيس السوري أحمد الشرع ورئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في قطر وكان هذا التقارب برعاية وضمانة تركية، وبدعم أميركي وسعودي.

في هذه اللحظة التاريخية الفريدة التي تتقاطع فيها مصالح الدول الثلاث تحاول تركيا أن تثبّت أقدامها كقوة إقليمية وخاصة بعد استتباب الوضع الداخلي من خلال الاتفاق التاريخي مع حزب العمال الكردستاني، والانفتاح على العالم العربي، وتحوّل البوصلة الاقتصادية العراقية أولاً والسياسية لاحقاً بعيداً عن المحور الإيراني الذي تقطعت أوصاله بالتزامن مع الانفتاح الدولي الذي تحظى به القيادة السورية الجديدة؛ والأهم هو الرضا الأميركي والدعم العربي لإعادة رسم خريطة التوازنات وفق المصالح الاقتصادية.

من أعالي الفرات إلى خور عبد الله

مع اتضاح ملامح الشرق الأوسط الجديد، تواجه الدول الثلاث تحديات بنيوية متداخلة. فالعراق، أحد أبرز منتجي “أوبك”، يمتلك احتياطات نفطية هائلة لكنه يعاني من ضعف القدرة التصديرية عبر موانئه، مع ضعف إمكانيات ميناء أبو قصر، والممرات الضيقة في خور عبد الله، الذي يواجه أيضاً نزاعات قانونية مع الكويت. كما أن علاقته بحكومة إقليم كردستان شمالاً غير مستقرة، مما يجعل الاعتماد على خط كركوك-جيهان التركي خياراً غير مضمون استراتيجياً.

في هذا السياق، يظهر خط أنابيب كركوك–بانياس كممر حيوي لاستئناف تصدير النفط العراقي إلى البحر المتوسط، حيث تنخفض المخاطر الجيوسياسية مقارنة بمضيق هرمز وباب المندب، وتقترب المسافة إلى الأسواق الأوروبية.

أما سوريا، التي تحاول تجاوز آثار حرب مدمّرة، فقد وضعت قيادتها المدعومة إقليمياً وعربياً في صلب أولوياتها بناء علاقات متوازنة مع دول الجوار، وعلى رأسها العراق وتركيا.

أزمة الطاقة وعودة المياه لمجاريها

يتشابك ملف الطاقة مع ملف المياه بين الدول الثلاث المتشاطئة على نهري دجلة والفرات والذي كان ملفاً حاضراً بشكل دائم لأي محادثات بينها حيث مر هذا الملف بمحطات مختلفة منذ السبعينيات؛ حيث بدأت تركيا ببناء سدود لدعم مشاريع الري الكبرى لجنوب شرق الأناضول ولتوليد الطاقة الكهرومائية لتمكين تركيا من الحد من اعتمادها على النفط كمصدر للطاقة مما أدى إلى التأثير على حصص المياه لدولة المرور (سوريا) والمصب (العراق). وكاد التوتر في هذا الملف أن يصل إلى نزاع مسلح بين سوريا والعراق عام 1975 عندما بدأت تركيا وسوريا في استخدام سدي كيبان في تركيا والطبقة في سوريا لتنخفض حصة العراق من المياه؛ قبل نزع فتيل الأزمة بعد وساطة سعودية. وقد تكررت الأزمات لاحقاً.

لذا فان أي انفراج في ملف الطاقة والمياه تعبر عن تقارب سياسي بين الدول؛ وهذا ما تمكن متابعته حالياً من خلال عدة مؤشرات إيجابية برزت مؤخراً. وأهمها:

•    تزويد محافظة البصرة العراقية بالكهرباء عبر ثلاث سفن تركية تولد نحو 350 ميغاواط.
•    اتفاق العراق مع تركيا على ضخ 500 متر مكعب/ثانية من مياه الفرات للعراق يومياً.
•    مضاعفة صادرات الكهرباء التركية إلى العراق إلى 600 ميغاواط، عبر خط الربط المشترك.
•    تعهد تركيا بتوريد ملياري متر مكعب من الغاز لسوريا، للمساعدة في تشغيل محطات توليد الطاقة الكهربائية.
•    توقيع اتفاق هو الأكبر في تاريخ سوريا لتأهيل قطاع الطاقة مع شركات تركية وأميركية وقطرية باستثمارات قيمتها 7 مليارات دولار.

مكاسب التحالف؟

سوريا التي بدأت تتنفس الصعداء بعد رفع العقوبات الدولية عنها والدعم العربي والعالمي لتجربتها الجديدة، تحاول إعادة إعمار بنية تحتية مدمرة جزئياً أو كلياً وترميم إرث سياسي من المشاكل والأزمات مع دول الجوار.
كما تمثل الطاقة أهم احتياجاتها الملحة والتي يمكن أن تشكل إعادة تشغيل خط النفط كركوك-بانياس حلاً مثالياً بالاستفادة من إمداد النفط الخام العراقي ريثما يتم إعادة تأهيل وتشغيل حقول النفط والغاز السورية، بالإضافة الى إمداد الغاز المباشر من تركيا لدعم محطات توليد الكهرباء. كما أن زيادة إطلاق مياه الفرات من تركيا يمكن من تشغيل عنفات سد الطبقة السوري الثماني مما يؤمن 800 ميغاواط/ ساعة من الكهرباء.

أما تركيا فستستعيد عبر هذ التحالف الطريق البري لتصدير منتجاتها الى دول الخليج بعد التقارب مع السعودية والإمارات؛ بالإضافة الى دعم مشروع الاستقرار السياسي الذي بدأته حكومة العدالة والتنمية بما يتعلق بمعالجة المسألة الكردية.

ويمثل التحالف أيضاً حلاً مستداماً للعراق المتعطش للماء، بعد أن كانت الحكومة العراقية قد اضطرت إلى منع زراعة المحاصيل الصيفية بسبب محدودية الموارد المائية بسب الجفاف وانخفاض منسوب مياه الفرات. وقد تفاقم الأمر مع قطع إيران روافد نهر دجلة وخفض صادراتها من الغاز الجاف إلى العراق من 50 مليون متر مكعب يومياً إلى نحو 8 ملايين متر مكعب يومياً.

نظرة إلى المستقبل وبداية جديدة

لكن، وبقدر ما تبدو اللحظة واعدة، فإن الطريق لا يزال مليئاً بالعوائق. من جهة، لا يمكن إغفال النفوذ الإيراني، الذي يرى في هذا التقارب تهديداً لمصالحه داخل العراق وسوريا. ومن جهة أخرى، يظل الملف الكردي بمثابة لغم قابل للانفجار في أي لحظة، خاصة إذا لم تُضبط المصالح الأمنية بين أنقرة وبغداد. كما أن هشاشة الوضعين السياسيين في العراق وسوريا تجعل أي تحالف هشاً بطبيعته، مالم يُبْنَ على أسس مؤسساتية واضحة وقابلة للاستمرار.

لذا، فإن مستقبل هذا التحالف يعتمد على مدى قدرة العواصم الثلاث على تحويل هذا التقارب من تقاطع مصالح مؤقت إلى شراكة مستدامة. ويتطلب ذلك قبل كل شيء إطاراً قانونياً وتشريعياً واضحاً ينظم المشاريع، ويرسّم الحدود المائية والبرية، ويؤسس للجان مشتركة قادرة على اتخاذ القرار وتنفيذ الخطط. من شأن هذا الإطار أن يفتح الباب أيضاً أمام استثمارات خليجية ودولية قد تكون حاسمة في ترسيخ الاستقرار.

وهناك بعض الخطوات الجريئة التي قد يكون من المهم النظر فيها مبكراً وهي:

•    استكمال مشروع الغاز العربي بدعم تركي-قطري، وتأمين ترسيم الحدود البحرية لغاز شرق المتوسط.
•    إقامة مناطق صناعية وتجارية حرة على جانبي الحدود، تستغل الخبرات السورية، والموارد العراقية، والتكنولوجيا التركية.
•    إطلاق ميثاق مائي جديد يضمن حصصاً عادلة، ويضع نهري دجلة والفرات في حماية إقليمية ضد التدهور والتغير المناخي.
•    نقل النماذج الإدارية الناجحة مثل تجربة التوأمة بين غازي عنتاب وحلب إلى الموصل، دير الزور، أورفه، والحسكة.

إن منطقتنا بحاجة لنموذج جديد من العلاقات، لا يقوم على القطيعة والصراعات المؤجلة، بل على الشراكات الذكية التي تنطلق من الحاجة لا من الإيديولوجيا. قد لا يكون التحالف الثلاثي بين العراق وتركيا وسوريا معاهدة رسمية حتى الآن، لكنه بلا شك فرصة نادرة، قد تشكل نواة لتحول إقليمي أوسع. النجاح فيها لن يكون مضموناً، لكنه ممكن، إن توفرت الإرادة، وتحققت الشفافية، وأُعطي العمل المشترك ما يستحقه من الصبر والخطة والتكامل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *