الالتزام بالتعهدات.. أبرز تحديات “العهد الجديد” في لبنان
في أشهر قليلة، انقلب وضع لبنان، إذ سقط نظام بشار الأسد في سوريا المجاورة، وتضعضعت قوة “حزب الله” السياسية والعسكرية بعد حرب مع إسرائيل أسفرت عن اغتيال عدد كبير من قادته، وانتخب قائد الجيش السابق جوزاف عون رئيساً للبلاد، بعد فراغ في المنصب منذ 2022، وارتفعت السندات اللبنانية بأعلى نسبة في الأسواق الناشئة.
لكن انتخاب رئيس لا يعني حل كل مشكلات البلد، خصوصاً أن العارف بالطبيعة السياسية، يدرك أن صلاحيات الرئيس محدودة. هذا الواقع يعني أن البلاد في انتظار استحقاقات عسيرة، يمكن في حال نجحت في التغلب عليها، أن تضع البلاد على مسار التعافي الاقتصادي والسياسي.
لا يفصل خليل جبارة المحاضر الجامعي في الاقتصاد، بين الاستحقاقات السياسية وتلك الاقتصادية، معتبراً أن كل الأزمات التي مر ويمر بها لبنان مرتبطة بعضها ببعض.
جبارة رأى في تصريح لـ”الشرق”، أن أهمية خطوة انتخاب الرئيس تتمثل في “إعادة العمل بالمؤسسات الحكومية” بعد سنوات من الفراغ. ولكنه اعتبر أنها البداية، مذكراً أن الصلاحيات الرئيسية متركزة بيد السلطة التنفيذية، أي مجلس الوزراء، ما يعني أن الخطوة التالية تتمثل في “اختيار رئيس حكومة يحظى بثقة داخلية وخارجية”، تمكنه من حشد الدعم للبلاد، و”يمكنه معالجة القضايا الشائكة التي تعاني منها البلاد”.
هذا الأمر أكد عليه أيضاً رئيس الوزراء السابق فؤاد السنيورة في تصريح لـ”الشرق”، معتبراً أن المهمة التالية تتمثل في اختيار حكومة.
إثبات الالتزام
جبارة رأى أنه بعد إتمام الخطوة الثانية، فإن لبنان بحاجة إلى “إثبات التزامه” بالتعهدات خصوصاً السياسية منها. وأضاف أن أهم التزامين أمام الحكومة المقبلة، يتمثلان في القرار الدولي “1701”، الذي أوقف الحرب مع إسرائيل عام 2006، وفشلت البلاد في تنفيذه منذ ذلك الوقت، والإصلاحات المتفق عليها مع “صندوق النقد الدولي”.
تطرق الرئيس اللبناني المنتخب إلى الشأن السياسي في خطابه بعد أداء اليمين، إذ قال إنه سيعمل على “تأكيد حق الدولة في احتكار حمل السلاح، وأن يصبح لبنان دولة تستثمر في جيشها، وضبط الحدود وتثبيتها جنوباً، وترسيمها شمالاً وشرقاً وبحراً”.
احتكار حمل السلاح بيد الدولة يعتبر رسالة مباشرة بشأن “حزب الله” الذي صنفته الولايات المتحدة “إرهابياً”، وتزايدت هيمنته على الساحة السياسية اللبنانية، وبات متحكماً فعلياً بقرارات الحرب والسلم، كما كان سبباً رئيسياً في الأزمة بين البلد والكثير من الدول العربية التي تتهمه بتهريب المخدرات إليها، ومحاولة زعزعة أنظمتها، ما انعكس سلباً على الاقتصاد اللبناني. وخير مثال على ذلك، إغلاق دول الخليج حدودها أمام الصادرات الزراعية اللبنانية بسبب “استغلالها في تهريب مواد مخدرة”.
فشل لبنان في تنفيذ التزاماته لم يقتصر على الشأن السياسي، إذ تمتد هذه إلى عام 2002، وتحديداً بعد انعقاد مؤتمر “باريس 2” لدعم الاقتصاد اللبناني، حيث “لم ينفذ الكثير من تعهداته منذ ذلك الحين”، بحسب جبارة.
الاتفاق مع “صندوق النقد” أيضاً من المواضيع التي فشل لبنان في الالتزام بها. في 2022، توصل البلد الذي شهد أزمة اقتصادية عام 2019 محت نحو 90% من قيمة عملته وأوقعت نحو نصف سكانه في الفقر، لاتفاق على مستوى الموظفين مع الصندوق. ولكن الأخير اشترط العديد من الإصلاحات، وهي ما لم يتم تنفيذها حتى الساعة، ما أدى إلى تعليق الاتفاق الذي كان سيمنح البلاد 3 مليارات دولار، كانت بأشد الحاجة إليها.
ثقة المجتمع الدولي
من جهته، رأى المحاضر الجامعي والاستراتيجي في أسواق البورصة العالمية جهاد الحكيّم، أن “شخصية الرئيس الجديد ستساعد البلد على الحصول على التمويل من الدول الصديقة، ولكن ذلك مرتبط بهوية رئيس الحكومة والوزراء الجدد”، ولكنه أشار إلى أن “التمويل أصبح أكثر سهولة في الوقت الحالي”.
يحظى الرئيس الجديد بالتأييد الدولي، إذ بادر العديد من رؤساء العالم إلى تهنئته فور فوزه بالمنصب، على غرار العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، والرئيس الإماراتي الشيخ محمد بن زايد، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، حتى أن الرئيس الأميركي جو بايدن قال في بيان بعد انتخاب عون إنه “يحظى بثقتي. وأعتقد اعتقاداً راسخاً أنه الزعيم المناسب لهذه المرة”، متعهداً بدعم الشعب اللبناني لأنه “اختار طريقاً يتماشى مع السلام والأمن والسيادة وإعادة الإعمار، بالشراكة مع المجتمع الدولي”.
الحكيّم لفت أيضاً إلى العديد من التحديات التي تواجه “العهد الجديد”، لعل أبرزها إعادة ثقة المجتمع الدولي بلبنان، خصوصاً بعدما تخلف عام 2020 عن سداد سندات “يوروبوند” مستحقة.
أوقعت هذه الخطوة البلاد في دوامة من الأزمات المتتالية، خصوصاً أن المصارف المحلية كانت أبرز المحتفظين بهذه السندات، ما أدى إلى احتجازها أموال المودعين وتقييد حركتها لسنوات، ما أفقد الثقة بهذه المؤسسات المالية، وعزز اقتصاد “الكاش” خصوصاً بعد انهيار أسعار الصرف، وأوصل البلاد إلى قائمة “فاتف” الرمادية.
إعادة التفاوض مع صندوق النقد
التخلف عن سداد الديون لا يعني أن ما كسر لا يمكن إصلاحه، ولعل الأرجنتين مثال على ذلك. ولكن مسيرة إصلاح هذا الشرخ مع المجتمع الدولي ستكون عسيرة، وهي أيضاً ملقاة على كاهل “العهد الجديد”.
الحكيّم رأى أن إعادة إصلاح ما تضرر قد تكون من خلال إعادة التفاوض مع “صندوق النقد” على اتفاق، بحيث يكون صلة الوصل مع الدائنين للوصول إلى تسوية تتيح سداد هذه الديون أو بعضها.
في الوقت ذاته، يجب أن يتم الاتفاق مع الصندوق على برنامج إصلاحي جديد، يتضمن “إعادة هيكلة المصارف، والوصول إلى حل منطقي لأزمة المودعين”، و”الالتزام بالتخلص من الاقتصاد النقدي” بحسب الحكيّم، وصولاً إلى محاولة “جذب المصارف العربية والأجنبية والاستثمارات إلى البلاد، وخلق أسواق مالية تعكس الاقتصاد اللبناني، وتكون وسيلة لتمويل الشركات والاقتصاد والشركات الناشئة”.
رغم تعهد لبنان في اتفاقه مع الصندوق، بإقرار قوانين إصلاحية تمكن من الوصول إلى صيغة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي، إلا أن أياً من هذه القوانين لم يتم تمريرها حتى الساعة.
الحفاظ على المنجزات القليلة
المحاضر الجامعي والخبير الاقتصادي باتريك مارديني كان متفائلاً بانتخاب الرئيس، معتبراً أن أبرز التحديات أمامه تتمثل في “الحفاظ على المكتسبات التي تحققت في الفترة الماضية”.
استقرار سعر الصرف من أبرز المكتسبات التي يجب المحافظة عليها وفق مارديني. استطاع البنك المركزي من تحقيق ذلك تحت قيادة وسيم المنصوري، والذي تسلم هذه المهمة بعد انتهاء ولاية المحافظ السابق رياض سلامة، والذي لا يزال قيد التحقيق بتهم عدة.
مارديني رأى أيضاً أن “العهد الجديد” عليه المحافظة على التوازن في المالية العامة، و”عدم الرجوع إلى سياسات الصرف المفرط”، معتبراً هذه الإنجازات “حجر زاوية” للبناء عليها في مسيرة إنعاش الاقتصاد اللبناني. ولكنه لفت أيضاً إلى أنه “لا مفر من إعادة هيكلة القطاعين المصرفي والعام”.
البنية التحتية المهترئة أيضاً من بين التحديات، خصوصاً في بلد تكاد الخدمات الحكومية فيه أن تكون شبه معدومة، إذ يشهد انقطاعاً يومياً للكهرباء والمياه، كما أن شبكة الصرف الصحي بحاجة للتطوير، ناهيك عن الخسائر الضخمة في هذا القطاع المترتبة عن الحرب الأخيرة مع إسرائيل.
مارديني الذي غالباً ما ينادي بضرورة السماح للقطاع الخاص بالعمل، رأى أن “العهد الجديد” يستطيع معالجة تحديات البنية التحتية الأساسية، وخصوصاً الكهرباء والمياه، من خلال إدخال القطاع الخاص إلى هذه الأسواق، ما يخفف الكلف عن كاهل الدولة ويزيد من المنافسة بين الشركات، ما يخفض الأسعار على المستهلك.
سوريا “فرصة مهمة” للبنان
لعل الأزمة السورية بتعقيداتها، وسقوط نظام بشار الأسد، والذي كان حليفاً لفئة كبيرة من الأحزاب اللبنانية، من أهم التحديات التي قد تواجه لبنان على الصعيدين السياسي والاقتصادي.
تطرق عون في خطابه أيضاً إلى هذا الأمر، معتبراً أن البلاد أمام “فرصة تاريخية” لبدء حوار مع سوريا يضمن استقلال البلدين ويضبط حدودهما، متعهداً بإقامة أفضل العلاقات مع الدول العربية، والعمل على تثبيت الاقتصاد الحر ومواجهة الفساد.
مارديني رأى أن سقوط نظام الأسد قد يشكل “فرصة مهمة” للبنان، “في حال تمكن من استغلالها”. وأضاف أن تحسين العلاقات مع سوريا، والدول العربية، من شأنه أن “يعيد خطوط التجارة إلى العمل”، نظراً لأن لبنان لا يملك حدوداً مفتوحة إلا مع سوريا.
إعادة خط التجارة “أمر حيوي للبنان، ويخفض من كلف الاستيراد والتصدير، ويخفف من الأعباء على المنتجين والمصدرين” وفق مارديني، الذي أشار أيضاً إلى أن استقرار الأوضاع في سوريا، قد يؤدي إلى إعادة اللاجئين السوريين من لبنان إلى بلادهم، ما يخفف من الضغوط الاقتصادية على البلد.
خلال الشهر الجاري، منحت واشنطن إعفاءً مؤقتاً ومحدوداً للعقوبات المفروضة على سوريا. ورغم أن غالبية الإعفاءات كانت لأسباب إنسانية، إلا أن الخطوة فتحت الباب أمام احتمال رفع العقوبات بشكل كامل مع تغير الإدارة الحاكمة.
في حال رفع العقوبات، فإن ذلك من شأنه فتح المجال للبنان لكي يساهم في عملية إعادة الإعمار التي قد تحتاج ما يصل إلى 300 مليار دولار، كما قد تفتح الباب أمام بيروت لاستيراد الطاقة عبر دمشق، وفق مارديني.
في يناير 2022، وقع لبنان والأردن وسوريا اتفاقيتين كان البنك الدولي سيمولهما، الأولى لتزويد لبنان بالطاقة الكهربائية من الأردن، والثانية لتأمين عبور الطاقة عبر سوريا إلى لبنان. كما وقع اتفاقية لنقل الغاز المصري إلى لبنان.
إعادة إعمار لبنان
شهد لبنان خلال العام الماضي حرباً قاسية دمرت أجزاءً كبيرة من أراضيه. ورغم أن الجيش الإسرائيلي لا يزال متواجداً في أراض لبنانية رغم اتفاق وقف النار، إلا أن الهدنة لا تزال صامدة.
“العهد الجديد” أمامه تحدٍ متشعب في هذا الملف، إذ يتداخل الشأن الأمني مع السياسي والاقتصادي فيه.
جبارة حسم أن لبنان لا يستطيع إعادة الإعمار من دون مساعدة دولية وعربية، وهو ما يتطلب أولاً إصلاح العلاقات مع هذه الدول.
أشارت تقديرات “البنك الدولي” بشأن كلفة الحرب، إلى أنها تقدر بنحو 8.5 مليار دولار، تنقسم إلى خسائر مباشرة وتكاليف مترتبة عن الحرب. بلغت الخسائر المباشرة نحو 3.4 مليار دولار، غالبيتها في الممتلكات والعقارات، مع تضرر أكثر من 100 ألف شقة سكنية بشكل كامل أو جزئي. أما تداعيات الحرب على القطاعات الاقتصادية، فبلغت نحو 5.1 مليار دولار.
هذه الكلفة تشكل نحو 50% من الناتج المحلي اللبناني بعد الأزمة، وهي كلفة أعلى بكثير من خسائر حرب 2006 مع إسرائيل والتي بلغت نحو 10% من الناتج المحلي الإجمالي آنذاك، وفق جبارة.
مارديني توقع أن تكون الكلفة أعلى من ذلك، لتصل إلى نحو 10 مليارات دولار. ولكنه أوضح أن كل الأرقام التي تتحدث عن كلفة الحرب ليست دقيقة تماماً، لأن المسح الميداني لم ينته بعد. كما نبّه أيضاً إلى أن الأضرار المباشرة تقدر بنحو نصف هذا الرقم.
ارتفاع الأرقام في تقديرات مارديني، يعود إلى احتساب أثر الحرب على التضخم والنمو الاقتصادي أيضاً. ويتوقع أن يسجل اقتصاد لبنان انكماشاً بنحو 5 إلى 6% في 2024، في حين أن النمو سيكون “أضعف مما يجب في السنوات المقبلة”.
والحال، أن انتخاب رئيس للجمهورية يعد خطوة على مسار إعادة لبنان إلى الساحة الدولية على المستوى السياسي والاقتصادي، ولكن هناك الكثير من الخطوات الإضافية المطلوبة لإعادة إنعاش الاقتصاد المتأزم، والتي عملياً لم تبدأ بعد.
ولكن الأهم من ذلك، أن لبنان بحاجة حالياً إلى “تنفيذ التزاماته” بشكل واضح هذه المرة، عوضاً عن الاستمرار في التأجيل كما جرت العادة، خصوصاً أن فشله هذه المرة سيفاقم من المعاناة الاقتصادية والسياسية للبلد.