الاقتصادات تمرض حين يتراجع الإقبال على اللقاحات

لطالما كان ظهور بقع حمراء على وجه طفل يرعب الآباء والأمهات حول العالم. برغم أن الأطفال كثيراً ما يصابون بأنواع شتى من الطفح الجلدي، إلا أن أكثرها إقلاقاً هو الذي تصاحبه حمى شديدة، وسعال جاف متقطّع واحمرار ودموع في العينين، وكذلك تقرّحات صغيرة داخل الفم. خلال أيام قليلة، يتمدد الطفح تدريجياً من الوجه نزولاً نحو باقي أنحاء الجسم حتى يصل إلى القدمين. يُعدّ فيروس الحصبة من أكثر الفيروسات قدرة على العدوى، وفي الحالات الشديدة قد تتطلّب الإصابة به دخول المستشفى وقد تخلّف إعاقات دائمة بل قد تؤدي في بعض الأحيان إلى الوفاة.
أهمية صحية واقتصادية
لكن هناك فئة أخرى أيضاً كانت تقلقها الحصبة، وهي أصحاب العمل. إذ تفقد الشركات أياماً من الإنتاجية عندما يضطر الموظفون للتغيب ليرعوا أطفالهم المرضى. وإلى جانب إنقاذ الأرواح، شكّل ذلك دافعاً إضافياً للحكومة الأميركية حتى تسهم في تمويل تطوير لقاح مضاد، ما أفضى إلى توقيع الرئيس جون إف. كينيدي قانوناً يوسّع نطاق تلقي الأطفال للقاحات.
في العقد الذي تلا طرح لقاح الحصبة في 1963، تراجع عدد الإصابات إلى النصف. وتشير تقديرات الجراح العام الأميركي إلى أن الوفورات الصحية المباشرة بلغت ما لا يقل عن مليار دولار سنوياً بعد احتساب التضخم. لا تشمل هذه الحصيلة خسائر الإنتاجية التي تتكبّدها الأسر المثقَلة بالأعباء، ولا الفقد المأساوي لأطفال كان يمكن أن يكبروا ويسهموا في المجتمع.
لا تقتصر أهمية اللقاحات على إنقاذ الأرواح والوقاية من المضاعفات الصحية المزمنة، بل تُعد أيضاً من ركائز النمو الاقتصادي في أي دولة. فقبل انتشار برامج التلقيح، كانت حتى الدول الغنية أشبه بالدول الفقيرة، إذ كان السكان أكثر عرضة للأمراض و أقل إنتاجية وأقصر عمراً. بالتالي، فإن تعزيز تلقي اللقاحات يعدو كونه مسألة أخلاقية وصحية، بل أيضاً سياسة اقتصادية حكيمة. تؤكد ساشيكو أوزاوا، الأستاذة المشاركة في كلية “إيشلمان” للصيدلة بجامعة نورث كارولاينا، أن “اللقاحات من أكثر الحلول كفاءة من حيث الكلفة في مجال الصحة العامة”.
التردد في تلقي اللقاحات ليس ظاهرة مستجدة. في عام 2003، شهدت نيجيريا موجة رفض للقاح شلل الأطفال لأسباب دينية، ما أدى إلى عودة مأساوية للمرض وانتشاره في أنحاء أفريقيا. وما هو إلا عام واحد حتى عاد الأهالي إلى تلقيح أطفالهم. غذّى ذلك الرفض، كما في أماكن أخرى، مزيج من المعلومات المضللة وغياب الحافز لتلقي اللقاح حين تكون الصحة جيدة.
انتشار المعلومات المضللة بعد الجائحة
بعد عقود من الاستفادة من برامج التلقيح، بدأت الدول المتقدمة تسير في الاتجاه المعاكس. فقد سجّلت معدلات التلقيح في الدول ذات الدخل المرتفع والمتوسط الأقرب إلى المرتفع خلال العقد الماضي حالة ركود أو تراجع، ما أدى إلى ارتفاع الوفيات الناتجة عن أمراض يمكن الوقاية منها، وفقاً لدراسة نُشرت العام الماضي في دورية (Vaccine). وفي المملكة المتحدة، أعلنت هيئة الخدمات الصحية الوطنية أن معدلات تلقيح الأطفال في عام 2024 تراجعت على مختلف المستويات، وبلغ بعضها أدنى مستوى له منذ عام 2010.
في المقابل، سجّلت الدول المدعومة من التحالف العالمي للقاحات والتحصين –وهو شراكة بين القطاعين العام والخاص تموّل مبادرات الصحة العامة في الاقتصادات الفقيرة– تحسناً لافتاً في معدلات التغطية، ما ساهم في إنقاذ ملايين الأرواح.
اقرأ أيضاً: انخفاض معدلات تطعيم الأطفال في أميركا بسبب التشكيك في اللقاحات
زادت جائحة كوفيد-19 تراجع الإقبال على تلقي اللقاحات في الدول الغنية. برغم أن الاستثمار الحكومي في تطوير اللقاحات كان قراراً أنقذ الأرواح وقلّص الأعباء الاقتصادية، إلا أن الرسائل المتضاربة من الجهات الصحية والمعلومات المغلوطة المتفشية عبر الإنترنت قوّضت ثقة الجمهور.
أشارت ساشيكو أوزاوا إلى أن شركات تصنيع اللقاحات تتحمّل جانباً من المسؤولية، إذ أهملت جانب التسويق الفعّال، معتقدة أن الجائحة بذاتها كانت حملة دعائية كافية. أضافت: “الأمر يشبه أي منتج آخر. فقد ركّز المصنّعون والموزعون على الإنتاج وتوفير الإمدادات، ونسوا أهمية صنع الطلب”.
خفض التمويل
المخاطر في الدول الفقيرة أعلى بطبيعة الحال، نظراً لارتفاع معدلات الوفيات المحتملة. لكن حتى من منظور اقتصادي بحت، فإن كلفة تراجع معدلات التلقيح في دول مثل كندا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة تُعد باهظة. حين تفشت الحصبة عام 2019 في مقاطعة كلارك بولاية واشنطن، حيث أُصيب 71 شخصاً، بلغت الكلفة نحو 47 ألف دولار لكل إصابة، وفق دراسة نُشرت في 2021 في دورية (Pediatrics). تحمّل النظام الصحي العبء الأكبر، تليه خسائر الإنتاجية. كانت الحصيلة ستصبح أفدح لو سُجّلت وفيات، كما حدث هذا العام في غرب تكساس، حيث أودى تفشٍّ جديد للحصبة بحياة شخصين. في يوليو، دخلت الولايات المتحدة مرحلة قاتمة بتسجيل أعلى عدد إصابات سنوية منذ عام 1992.
اقرأ أيضاً: أكبر صانع أدوية في أفريقيا يرى توجهاً نحو استقلالية القارة في إنتاج اللقاحات
ورغم أن اللقاحات تحقق عائداً مجزياً على الاستثمار، فإن حكومات الدول الغنية تبدي فتوراً متزايداً تجاه الإنفاق على الرعاية الوقائية، بل ساهم بعضها في تغذية المعلومات المضللة التي تعزّز الشكوك حول فعالية اللقاحات.
في يونيو، خفّضت المملكة المتحدة مساهمتها في تمويل التحالف العالمي للقاحات والتحصين بقدر كبير، بينما أعلن وزير الصحة الأميركي روبرت إف. كينيدي الابن –المعروف بمواقفه المنتقدة للقاحات– أن الولايات المتحدة ستوقف تمويله بالكامل، في إطار خطة تقشف حكومية قادها إيلون ماسك ركزت بشكل غير متوازن على خفض المساعدات الخارجية.
مخاطر اقتصادية
في الولايات المتحدة، سحبت لجنة اللقاحات التي عينها كينيدي في مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، دعمها للقاحات التي تحتوي على الزئبق، وهو مركّب يُستخدم في نحو 5% من لقاحات الإنفلونزا للحماية من التلوث البكتيري، استناداً إلى مخاوف سبق دحضها بشأن سلامة هذه المادة. في الوقت نفسه، تعرقل القيود التي فرضتها إدارة الرئيس دونالد ترمب على البيانات الاتحادية قدرة القطاع الصحي على تتبع الأمراض المعدية والاستعداد لموجات تفشي الأمراض.
مع تراجع معدلات التلقيح، تلوح أمراض أخرى في الأفق، مهددة بأزمات صحية واقتصادية مزدوجة. في الولايات المتحدة ومناطق عدة حول العالم، كانت سلالة الإنفلونزا في الموسم الماضي من بين الأكثر عدوى وفتكاً خلال العقد الأخير، والتوقعات للموسم المقبل الذي يبدأ في الخريف لا تبشّر بالخير.
كما يثير الانخفاض المتواصل في معدلات التلقيح ضد السعال الديكي قلق الخبراء، بحسب برايان باتنود، الأستاذ المساعد المتخصص باقتصاديات الصحة بكلية بلومبرغ للصحة العامة في جامعة جونز هوبكنز (الكلية مدعومة من مايكل بلومبرغ، مؤسس ومالك حصص الأغلبية في مجموعة بلومبرغ، الشركة الأم لمجلة بلومبرغ بيزنس ويك).
يفاقم كلّ ذلك سياسة صحية تفتقر للأسس السليمة، بل تتناقض بشكل لافت مع المساعي الرامية إلى تسريع النمو الاقتصادي ومعالجة أزمات كبرى مثل تصاعد الدين العام. صحيح أن الدول الغنية قادرة إلى حدّ ما على تحمّل التكاليف الإضافية لرعاية سكان يعانون أوضاعاً صحية متدهورة، إلا أن جائحة جديدة بحجم كوفيد أو تفشياً حاداً لسلالة خطيرة من الإنفلونزا قد يُلحق أضراراً جسيمة باقتصاداتها، بحسب باتنود الذي قال: “جزء كبير من المسألة يتعلّق بتكلفة الفرصة البديلة، فغالباً ما تكون الوقاية أقل كلفة بكثير من العلاج”.