الأزياء في العالم العربي: محرك اقتصادي جديد وفرص استثمارية متنامية

يشهد قطاع الأزياء في العالم العربي تحولاً نوعياً يعكس تغيرات اقتصادية وثقافية متسارعة، إذ تتقاطع الموضة اليوم مع مفاهيم الهوية والابتكار والاستدامة، في وقتٍ تتجه فيه مدن مثل دبي والرياض لتعزيز موقعها كمراكز إقليمية وعالمية في هذه الصناعة.
وبينما تسجل الأسواق الخليجية نمواً ملحوظاً في الطلب والاستثمار في القطاع، تبرز مبادرات محلية وشبابية تُعيد رسم ملامح الأزياء التقليدية بأساليب معاصرة.
ويأخذنا هذا التقرير في جولة ننظر فيها عن قرب لهذا القطاع عربياً.
يتعاظم زخم هذا المشهد الإقليمي عند النظر إليه ضمن الإطار العالمي لصناعة الأزياء، التي يُتوقّع أن ترتفع قيمتها إلى 2.25 تريليون دولار بحلول عام 2030، ما يؤكد أهمية تكثيف الحضور العربي داخل هذه السوق متسارعة النمو.
ما هو حجم قطاع الأزياء عربياً؟ وأين تتركز الاستثمارات؟
يشهد قطاع الأزياء في العالم العربي نمواً ملحوظاً، مدفوعاً بالطلب المتزايد على الموضة الفاخرة والمنتجات المستدامة. ويقدّر حجم سوق الأزياء في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا بنحو 14.85 مليار دولار عام 2024، مع توقعات بنمو سنوي مركب يصل إلى 7.7% حتى عام 2031، وفقاً لتقرير صادر عن شركة “كوغنتيف ماركت ريسيرتش” (Cognitive Market Research).
تعد دول الخليج، وعلى رأسها السعودية والإمارات، المحرك الرئيسي للاستثمارات في القطاع، حيث يقدّر حجم سوق الأزياء في دول مجلس التعاون الخليجي بنحو 6.36 مليار دولار، مع نمو سنوي مركب يقترب من 8.5%، وفقاً لبيانات “كوغنتيف ماركت ريسيرتش”.
يبرز ذلك بوضوح في الطفرة التي تشهدها مراكز التسوق الكبرى وسلاسل التوزيع الفاخرة، إذ تشير تقديرات “فوغ بيزنس” (Vogue Business) إلى أن سوق الأزياء الفاخرة وحده في الخليج بلغ 5.2 مليار دولار في 2023، تستحوذ الإمارات على قرابة نصفه.
اقرأ أيضاً: الموضة الرقمية.. عوالم افتراضية وأموال حقيقية
أما في شمال أفريقيا، فتقود مصر المشهد بقاعدة إنتاجية قوية وتاريخ طويل في صناعة النسيج، إذ يقدّر حجم سوق الأزياء المصري بنحو 1.56 مليار دولار، مع معدل نمو سنوي يبلغ 8% حتى عام 2031، بحسب “كوغنتيف ماركت ريسيرتش”.
وفي فئة الملابس وحدها، يُسجّل القطاع نمواً سنوياً يتجاوز 8.7%، ما يعكس اتساع قاعدة المستهلكين الرقميين وارتفاع الطلب على التسوق عبر الإنترنت في أسواق مثل السعودية والإمارات.
دبي كعاصمة إقليمية للموضة: هل تخلق المدينة مركزاً بديلاً لباريس وميلانو؟
تتقدّم دبي بخطى واثقة لترسيخ مكانتها كمركز إقليمي وعالمي لصناعة الموضة، مدفوعة ببنية تحتية تجارية متقدمة، وفعاليات دولية متنامية، وقاعدة استهلاكية ذات قدرة شرائية عالية. وبحسب تقرير مشترك صادر عن “بزنس أوف فاشن” (Business of Fashion) و”ديزاين ديستريكت دبي”، بلغ حجم سوق الأزياء في الإمارات نحو 12 مليار درهم (3.3 مليار دولار) عام 2022، مع توقعات بنمو سنوي مركب يبلغ 5% حتى عام 2030، وهو معدل يتجاوز المتوسط العالمي البالغ 3.7%.
أظهر التقرير أن 66% من المستهلكين المحليين يرون في الأزياء وسيلة للتعبير عن الهوية، ما يعزز الإقبال على العلامات العالمية والإقليمية على حد سواء.
قد يهمك أيضاً: انطلاق أسبوع الموضة العربي بنسخته الـ21 في دبي
اختارت دار “زينيـا” (Zegna) تنظيم أول عرض أزياء لها خارج إيطاليا في دبي في يونيو من العام الجاري، في خطوة تعكس التحوّلات الجغرافية في صناعة الموضة، حيث وصف الرئيس التنفيذي للدار المدينة بأنها باتت “محوراً حقيقياً في توازن القوى داخل هذا القطاع”.
لكن هذا الزخم لا يخلو من تحديات. فمدى استدامة صعود دبي كمركز للموضة ومنافستها مراكز مثل ميلانو وباريس يرتبط بقدرتها على بناء منظومة إنتاج محلية، وتطوير بنية صناعية تتجاوز منصات العرض نحو سلاسل التوريد والتصنيع. ووفقاً لـ”فوغ بيزنس”، لا تزال معظم العلامات المنتسبة للمشهد المحلي تعتمد على التصنيع في أوروبا أو آسيا.
تسعى الجهات التنظيمية في دبي إلى تعزيز الابتكار في المواد المستدامة، ودعم المصممين المحليين، وتشجيع الاستثمار في سلاسل الإمداد، في إطار جهود لتحويل المدينة من واجهة تجارية إلى مركز إنتاجي يتمتع بقدرة تنافسية على المستوى العالمي.
السعودية… مثال بارز في دعم ريادة النساء بقطاع الأزياء
برزت السعودية كمثال رائد في دعم ريادة النساء في قطاع الأزياء، بينما لا تزال معظم دول المنطقة تفتقر إلى بيانات دقيقة أو مبادرات مماثلة بالحجم ذاته.
وفق تقرير “حالة قطاع الأزياء في المملكة 2024” الصادر عن هيئة الأزياء السعودية، شكلت النساء 52% من القوة العاملة في القطاع عام 2023، وتأتي هذه المشاركة في سياق برامج دعم ممنهجة تستهدف المصممات ورائدات الأعمال.
أشار التقرير أيضاً إلى أن مساهمة صناعة الأزياء في الناتج المحلي الإجمالي السعودي بلغت 2.5% في 2023، مقارنةً بـ 1.4% للعام الذي سبقه.
اقرأ أيضاً: أسبوع الموضة في البحر الأحمر” يستقطب 7 علامات تجارية لمصممات عربيات
من أبرز المبادرات برنامج “حاضنة الأزياء” التابع لوزارة الثقافة السعودية، والذي أُطلق أواخر 2020 ويقدّم دعماً شاملاً يشمل التدريب، والإرشاد، وتسريع الأعمال.
وتعد أكاديمية “نفيسة شمس” من أبرز الجهات السعودية المتخصصة في التدريب المهني الموجّه للنساء، حيث توسّع نشاطها منذ انطلاقها عام 2006 ليشمل أكثر من 90 برنامجاً تدريبياً تغطي مجالات متعددة، من بينها الخياطة، وتصميم الأزياء، والتصميم الرقمي، والتجميل، والتصوير، إلى جانب ريادة الأعمال، وقد دربت أكثر من 17 ألف سيدة منذ انطلاقها، بحسب الموقع الإلكتروني للأكاديمية.
كيف يعيد الشباب العربي ابتكار الجلابية والعباءة والقفطان في سياق عصري؟
تشهد الأزياء التقليدية في العالم العربي، وعلى رأسها الجلابية والعباءة والقفطان، تحوّلاً لافتاً على يد مصممين شباب يعيدون صياغتها بروح عصرية تدمج بين الموروث والحداثة. في أسواق مثل دبي ومراكش، لم تعد هذه القطع محصورة في ألوانها وخطوطها الكلاسيكية، بل باتت تُقدّم بقصّات أكثر انسيابية، وأقمشة مثل الكريب والكتان والشيفون، مع توظيف تفاصيل تصميمية تواكب الذوق العالمي.
قالت مجلة “تين فوغ” (Teen Vogue)، في تقرير، يتّجه هذا الجيل من المصممين إلى إحياء هذه الأزياء بلمسات معاصرة تلائم الاستخدام اليومي والمناسبات الرسمية على حد سواء، ما يعكس محاولة واعية لتوسيع حضورها خارج السياق المحلي وإعادة طرحها كمنتج ثقافي قابل للتصدير.
السلع الفاخرة المستعملة تخطف أنظار جيل جديد من العرب.. تفاصيل القصة هنا
يتقاطع هذا التوجه مع نزعة متنامية نحو الاستدامة في قطاع الموضة، حيث يُعاد تصميم العباءات والقفاطين باستخدام أقمشة صديقة للبيئة وتطريزات عصرية.
مواسم رسمية ومبادرات مرتبطة بالموضة تعزز النفوذ الثقافي للخليج
تُولي دول الخليج، وعلى رأسها السعودية والإمارات، اهتماماً متزايداً بقطاع الأزياء ضمن استراتيجياتها الثقافية الشاملة. فقد أطلقت السعودية مواسم ثقافية مثل “موسم الرياض” و”موسم جدة”، تتضمن عروض أزياء ومعارض تصميم تُروّج للهوية المحلية بأسلوب معاصر.
كما تدعم وزارة الثقافة السعودية من خلال “هيئة الأزياء” برامج مثل الحاضنات والمسابقات الوطنية، بهدف تمكين المصممين محلياً وتصدير الصورة الإبداعية للمملكة، بحسب تقرير نشره مركز “يو إس سي” للدبلوماسية العامة (USC Center on Public Diplomacy).
وفي مايو 2024، أُقيمت النسخة الأولى من “أسبوع الموضة في البحر الأحمر”، إحدى المبادرات البارزة لهيئة الأزياء السعودية، في منتجع سانت ريجيس البحر الأحمر، وشهدت مشاركة نخبة من المصممين السعوديين والعالميين. امتد الحدث على مدار ثلاثة أيام، وتضمّن عروض أزياء فاخرة، مجوهرات، ملابس جاهزة وأزياء المنتجعات، ضمن برنامج فعّاليات هدف إلى إبراز الإبداع المحلي وتعزيز التبادل الثقافي.
جاء تنظيم هذا الأسبوع في سياق جهود المملكة الاستراتيجية لتنويع اقتصادها وتطوير قطاعاتها الثقافية والإبداعية، بما ينسجم مع مستهدفات “رؤية 2030”.
في الإمارات، تُشكّل مبادرات مثل “أسبوع دبي للموضة” جزءاً من رؤية أوسع لتعزيز موقع الدولة كمركز عالمي للصناعات الإبداعية. ويشير تحليل نشره موقع “فوغ بيزنس” إلى أن هذه المواسم تحولت إلى أدوات فعالة للنفوذ الثقافي، تجمع بين الابتكار والتمثيل الرمزي للهوية الوطنية.
إلى جانب هذه الجهود الرسمية، تبرز مبادرات فردية يقودها مصممون محليون يستخدمون الموضة كوسيلة للتعبير الثقافي والانخراط في حوارات اجتماعية عابرة للحدود، وهو ما أشار إليه “معهد أكسفورد للدراسات الأكاديمية” (Oxford Academic) بوصفه تطوراً نوعياً في الدبلوماسية الثقافية الخليجية.