استراتيجية الذكاء الاصطناعي في الصين تعتمد على الهوس والأعدقاء

بينما كنت أتجول هذا الأسبوع في أروقة قمة الذكاء الاصطناعي الأهم في الصين، سمعتُ نقاشات محتدمة حول بعض أكثر القضايا تعقيداً في هذا القطاع: كيف يمكننا حل مشكلة التشغيل البيني إذا كانت مئات الشركات تطلق برامج ذكاء اصطناعي خاصة بها؟ ما هي نماذج اللغة الكبيرة الأكثر ملاءمةً للمطورين لبناء تطبيقاتهم؟ وهل تُعد الروبوتات شبيهة البشر مجرد أدوات أم رفقاء بالفعل؟
عُقد المؤتمر العالمي للذكاء الاصطناعي على ضفاف نهر هوانغبو في شنغهاي، وجمع آلاف المشاركين -إلى جانب عشرات الروبوتات- مُجسداً كل ما يعتمل في الصين حالياً من شغف وتحديات مرتبطة بالذكاء الاصطناعي. كما أبرز المؤتمر بشكل واضح التباين الواسع بين الاستراتيجية التي تعمل الصين على تعزيزها وتلك التي تتباهى بها الولايات المتحدة الأميركية.
نموذج “ديب سيك” (DeepSeek)
كانت هذه أول فعالية كبرى تُعقد منذ إطلاق نموذج الاستدلال العقلي المتقدم لشركة “ديب سيك” (DeepSeek) في وقت سابق من العام الجاري، وهو النموذج الذي أشعل منافسةً شديدةً داخل البلاد، وأثبت أن الصين قادرة على مجاراة وادي السيليكون. وسط هذه الحماسة، تدفقت حشود المنافسين -الذين باتوا حاضرين في قطاعات محلية كثيرة- بدعم من الحكومة ونظام بيئي مفتوح المصدر يمكن الشركات من التعلم السريع من منافسيها.
على سبيل المثال، عندما أطلقت شركة “مون شوفت” (Moonshot)، وهي واحدة مما يُعرف بالتنانين الصغيرة، نموذجاً مفتوح المصدر يتفوق في مهام البرمجة، استطاعت شركة “علي بابا غروب” تحديث نموذجها “كوين” (Qwen) خلال نحو أسبوع لتحسين أدائه في نفس المهارات التي جعلت نموذج “كيمي كيه 2” (Kimi-K2) ينتشر بسرعة.
اقرأ المزيد: الذكاء الاصطناعي الصيني قادر على الصمود أمام الحرب التجارية
تُحب بكين أن تقول إن هذا النهج يُسهم في إتاحة الوصول إلى أدوات الذكاء الاصطناعي للجميع، من خلال تمكين العالم من بناء نماذج اعتماداً على أدواتها بحرية، كما أنه يمنح المطورين المحليين أفضلية.
يُشكل هذا الهوس الراهن بالذكاء الاصطناعي في الصين أفضل وأسوأ ما في الرأسمالية التقليدية إذ أن المنافسة تدفع عجلة الابتكار بسرعة كبيرة، لكن ليس كل الشركات ستصمد في السنوات الخمس أو العشر المقبلة. خلال القمة، روجت وسائل الإعلام المدعومة من الدولة لحقيقة أن الصين أطلقت حتى الآن 1500 نموذج ذكاء اصطناعي كبير -الحصة الأكبر عالمياً- وتضم أكثر من 5 آلاف شركة تعمل في هذا المجال.
سباق الذكاء الاصطناعي
رغم ذلك، طغت المنافسات الداخلية على مشهد أوسع يتمثل في صراع جيوسياسي على الهيمنة. انطلق التجمع الكبير في الصين بعد أيام فقط من تعهد الرئيس الأميركية دونالد ترمب بأن الولايات المتحدة الأميركية “ستفعل كل ما يلزم لصدارة العالم في مجال الذكاء الاصطناعي”. بعد الكشف عن ما يُسمى “خطة العمل للذكاء الاصطناعي”، أعلن ترمب أن أميركا هي الدولة التي بدأت سباق الذكاء الاصطناعي، و”ستكون هي من يفوز به”.
في شنغهاي، تصدّر رئيس الوزراء لي تشيانغ افتتاح القمة معلناً أن الصين ستقود إطلاق هيئة دولية لتطوير التكنولوجيا بشكل مشترك، بهدف منع تحولها إلى “لعبة حصرية بيد عدد محدود من الدول والشركات”. يتسق ذلك مع شعار المؤتمر لهذا العام: “التضامن العالمي في عصر الذكاء الاصطناعي”. أوضح لي أن الصين مستعدة لمشاركة تقنياتها ومنتجاتها مع العالم، لا سيما مع دول الجنوب العالمي.
اقرأ أيضاً: الصين تقود إنشاء منظمة دولية لتطوير الذكاء الاصطناعي وسط سباق مع أميركا
رغم ذلك، فإن ما يقوله قادة العالم شيء، وما يفعلونه فعلياً شيء آخر. جاء تصريح ترمب بأنه سيفعل ما يلزم للفوز بعد قرار قدم هدية كبيرة لشركات الذكاء الاصطناعي الصينية. غيرت واشنطن موقفها بشأن القيود المفروضة على أشباه الموصلات، وسمحت لشركة “إنفيديا” باستئناف بيع رقائق “إتش 20” (H20)، المطلوبة بشدة، في البر الرئيسي الصيني.
أُعلن عن هذا التراجع في السياسة خلال مفاوضات تجارية جارية، ويرجح أنه تأثر بها. كما جاء بعد أن ضغط الرئيس التنفيذي لـ”إنفيديا”، جنسن هوانغ، للسماح لشركته بالاحتفاظ بحصتها البالغة مليارات الدولارات من السوق الصينية المربحة.
الذكاء الاصطناعي منخفض التكلفة
رغم حديث لي عن “التضامن”، من غير الواضح عدد الدول التي ستختار في النهاية أن تصطف إلى جانب الصين. ومع ذلك، فإن هذا الموقف يختلف تماماً عن أهداف سياسة “أميركا أولاً” في الذكاء الاصطناعي، ويُشير إلى أن نهج بكين يعتمد على إقناع العالم باستخدام طيف واسع من منتجات الذكاء الاصطناعي منخفضة التكلفة التي تُطرح بسرعة. منحت العودة الجديدة لإمكانية الوصول إلى معالجات “إنفيديا” زخماً جديداً للقطاع، كما أن ازدحام المجال بالمنافسين يدفع الأسعار إلى التراجع. وعند المقارنة بين المسارين، يبدو أن خطة الصين ذات طابع استراتيجي بدرجة أكبر على المدى الطويل.
اقرأ أيضاً: ترمب يوقع أوامر تنفيذية لضمان ريادة أميركا في سباق الذكاء الاصطناعي
في إحدى ندوات الأحد الماضي، ظهر رائد الذكاء الاصطناعي يوشوا بنجيو عبر تطبيق “زووم”، ليُحذر من أن التنافس بين الولايات المتحدة الأميركية والصين يشكل خطراً، وأن وتيرة التطوير باتت سريعةً إلى درجة قد تجعل من المستحيل على البشر التحكم بها.
يطرح بنجيو وجهة نظر مُحقة. لكن هل يجد حديثه صدى؟ الطموحات المتسارعة في مجال الذكاء الاصطناعي على جانبي المحيط الهادئ توحي بعكس ذلك.