اخر الاخبار

احتياطي النقد الأجنبي يسند تركيا في مواجهة العاصفة السياسية

أمضت تركيا العام الماضي في إعادة بناء احتياطياتها المستنزفة من النقد الأجنبي، مما عزز من قدرتها المالية وشكّل درعاً حاسماً في مواجهة تقلبات السوق.

أتاح هذا المخزون من العملات الأجنبية للسلطات الذخيرة الكافية للصمود في وجه أكبر أزمة تواجه تركيا منذ نحو عقد، والتي اندلعت إثر احتجاز رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، أبرز منافسي الرئيس رجب طيب أردوغان.

عندما بدأ المستثمرون الأجانب بالبحث عن مخرج إثر انتشار نبأ احتجاز إمام أوغلو لدى الشرطة في 19 مارس، وتراجع الليرة بشكل حاد، تحرك البنك المركزي بسرعة، وتدخل بفعالية في سوق الصرف، كما رفع سعر فائدة رئيسي لكبح تدهور العملة.

بعد مرور أسبوع، تجاوز أردوغان إلى حد بعيد هذه الأزمة. فقد استقرت الأسواق التركية، مع توازن جديد في سعر صرف الليرة والأسهم وسندات الدين الحكومية.

لكن الأزمة أعادت إثارة نقاش تركي طويل الأمد، إذ يتهم المنتقدون، ومنهم أبرز أحزاب المعارضة، البنك المركزي مجدداً بأنه وفّر غطاءً لأخطاء الرئيس.

تدخل البنك المركزي التركي

قال بيتر كينسيلا، رئيس استراتيجية العملات الأجنبية لدى “يونيون بانكير بريفه” (Union Bancaire Privée UBP SA) في لندن: “لو لم يتدخل البنك المركزي، لكانت الليرة التركية الأضعف قد تسببت في تسارع كبير لتأثيرات التضخم المستورد. ما فعله البنك كان التصرف الصحيح”.

كان إمام أوغلو على بُعد أيام من إعلان ترشحه لانتخابات الرئاسة في عام 2028، حين تم توقيفه بتهم تتعلق بالفساد والإرهاب، وهي تهم ينفيها. أما الحكومة، فأكدت أن الاعتقال ناتج عن قضية لا علاقة لها بها.

تراجعت الأسهم التركية بنسبة 17%، وتجاوز سعر صرف الليرة لفترة وجيزة مستوى 40 مقابل الدولار، وارتفعت عوائد السندات مع انتشار نبأ الاعتقال، ما أجج احتجاجات جماهيرية واسعة استمرت بقوة لعدة أيام.

أنفق البنك المركزي نحو 25 مليار دولار خلال الأيام الثلاثة التالية للدفاع عن الليرة، بحسب تقديرات اقتصاديين في “غولدمان ساكس”. تمكن البنك من الصمود بفضل الاحتياطيات الضخمة التي بناها منذ الانتخابات المحلية في العام الماضي.

تراجعت الليرة بنسبة 0.8% أمام الدولار الأسبوع الماضي، في تباطؤ للانخفاض مقارنة بالأسبوع السابق له، فيما تتجه الأسهم التركية لتحقيق أكبر مكاسب أسبوعية لها منذ ثلاثة أسابيع. أما أداء السندات فكان متبايناً وسط محاولات التعافي؛ إذ استمرت عوائد السندات لأجل عامين في الارتفاع، وتراجعت عوائد السندات لأجل خمس سنوات، فيما استقرت عوائد السندات الحكومية لأجل عشر سنوات.

يحذر بعض المحللين من أنه إذا تراجعت المعنويات العامة في الأسواق بشكل أكبر، فقد يفقد البنك قدرته على الدفاع عن الليرة. وفقاً لحسابات “بلومبرغ إيكونوميكس”، فإن استمرار البنك المركزي في التدخل بالوتيرة نفسها التي شهدها الأسبوع الماضي، قد يؤدي إلى هبوط صافي الاحتياطيات إلى الصفر بحلول منتصف أبريل.

قال بيوتر ماتيس، كبير استراتيجيي العملات في “إن تاتش كابيتال ماركتس” (In Touch Capital Markets)، إنه حتى البنك المركزي الروسي، الذي يمتلك احتياطيات عملات أجنبية أكبر بكثير، اضطر في نهاية المطاف إلى “ترك الروبل ينهار عندما تعرض لضغوط بيعية هائلة”.

وقف دورة خفض الفائدة في تركيا

لكي تحافظ تركيا على ثقة المستثمرين، قد تُضطر إلى التوقف عن دورة خفض الفائدة الشهر المقبل، بعدما رفعت الأسبوع الماضي أحد أسعار الفائدة في اجتماع طارئ. ذكر بنك “غولدمان ساكس” أن البنك المركزي قد يقدم على رفع الفائدة بمقدار 350 نقطة أساس لجذب المستثمرين نحو الأصول المقومة بالليرة.

لكن استنزاف “الذخيرة” المالية لا يعالج السبب الجوهري وراء تدهور الليرة، وهو المناخ السياسي غير المستقر في تركيا.

قال أولريش لويشتمن، رئيس قسم أبحاث العملات الأجنبية في “كومرتس بنك” (Commerzbank) في فرانكفورت: “انطباعي هو أن استنزاف احتياطيات النقد الأجنبي في حالة تركيا بالكاد سينجح في تحقيق استقرار في سعر صرف الليرة، طالما أن عدم اليقين السياسي مستمر في الضغط على قيمة العملة”.

استقلالية السلطة النقدية في تركيا

قال “حزب الشعب الجمهوري” المعروف اختصاراً بـ(CHP)، والذي ينتمي إليه أكرم إمام أوغلو، إن تحركات السلطة النقدية تثير تساؤلات بشأن استقلاليتها.

ذكر يالتشين قاراتبه، نائب رئيس الحزب، في تصريح لـ”بلومبرغ” يوم الأربعاء: “كان يُنظر إلى البنك المركزي في السابق باعتباره حارساً لمصداقية السياسة النقدية، لكنه بات الآن يعمل كأداة سيولة لامتصاص المخاطر السياسية”. واتهم البنك بتنفيذ عمليات البيع هذه “بشكل غير شفاف”.

من جهته، يرى البنك المركزي أن استقرار الليرة التركية يمثل ركناً أساسياً في معركته ضد التضخم، وهي سياسة معتمدة منذ فترة طويلة قبل اضطرابات الأسبوع الماضي. رفض البنك التعليق على اتهامات المعارضة.

في خطاب ألقاه أمام أعضاء غرفة التجارة التركية-الألمانية يوم الأربعاء، قال محافظ البنك المركزي التركي فاتح كارهان، إن البنك تحرك بسرعة للحد من تقلبات السوق الأسبوع الماضي، حتى لا تطال آثارها الاقتصاد. أشار إلى أن الليرة بقيت مستقرة عند نحو 38 مقابل الدولار منذ بداية الأسبوع الماضي.

يرى البنك المركزي أن اتخاذ هذا الإجراء كان ضرورياً لمنع الأتراك من العودة إلى تحويل أجزاء كبيرة من مدخراتهم إلى الدولار، الأمر الذي من شأنه تقويض إصلاحات استمرت نحو عامين تهدف إلى تعزيز حيازة الليرة.

قالت سيلفا بهار بازكي من “بلومبرغ إيكونوميكس”: “الاستنزاف المتسارع للاحتياطيات قد يؤدي إلى تدهور سريع في ثقة الداخل بالليرة”.

لكن هذا الخطر لم يعد وشيكاً على ما يبدو؛ إذ يزداد الاقتناع بين المستثمرين بأن الاضطرابات السياسية التي وقعت الأسبوع الماضي لن تؤدي إلى تراجع عن السياسات الاقتصادية المعتمدة، وذلك بعدما أبدى أردوغان دعمه لسياسات وزير الخزانة والمالية محمد شيمشك التقليدية.

تباطؤ تراجع الاحتياطيات

قال إركين إيشيك، كبير الاقتصاديين في “بنك قطر الوطني”: “يبدو أن التراجع في صافي الاحتياطيات قد تباطأ بشكل كبير، ووصل إلى نحو 1.3 مليار دولار يوم الإثنين”. أضاف أن الاحتياطيات ارتفعت بمقدار 400 مليون دولار يوم الثلاثاء، على الأرجح بدعم من أسعار الفائدة المرتفعة التي أقرها البنك المركزي.

قبيل الانتخابات الرئاسية في عام 2023، استخدمت السلطات التركية مئات مليارات الدولارات من احتياطياتها في محاولة لبناء اقتصاد قائم على النمو السريع والفائدة المنخفضة. لكن ذلك أدى إلى ارتفاع حاد في التضخم، وأدخل البلاد في عجز عميق.

كان صافي احتياطيات البنك من العملات الأجنبية قد أصبح سلبياً بشكل كبير، في وقت اعتمد فيه على اتفاقات تبادل العملات مع المقرضين المحليين لتعزيز احتياطياته. عند خصم هذه الالتزامات، يمكن أن ينخفض صافي وضع الاحتياطيات إلى ما دون الصفر، ما يعني أن البنك المركزي مدين بعملات أجنبية تفوق ما يحتفظ به منها فعلياً.

منذ منتصف عام 2023، تعمل الحكومة على تصحيح هذا المسار بإعادة توجيه الاقتصاد نحو سياسة قائمة على أسعار فائدة مرتفعة وعملة مستقرة، وهو ما تعتبره شريحة كبيرة من الأتراك مؤشراً لصحة الاقتصاد. ساعدت الفائدة المرتفعة، التي بلغت ذروتها عند 50% قبيل الانتخابات المحلية العام الماضي، على جذب المدخرين إلى الليرة، ما مكّن البنك المركزي من إعادة بناء احتياطياته المستنزفة.

قال غيّوم تريسكا، استراتيجي الأسواق الناشئة لدى “جنرالي إنفستمنتس” (Generali Investments): “من مهام البنك المركزي الحفاظ على الاستقرار المالي، وحسن سير عمل الأسواق المالية”. أضاف: “لو حدث العكس، لكان ذلك مدمراً للاقتصاد التركي وللمواطنين من خلال موجة تضخم أعلى”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *