إسبانيا تواحه أزمات السكن والطاقة والهجرة بنموذج مناقض لأميركا

على السياح الذين يقصدون مدينة برشلونة توخي الحذر، فقد يهاجمهم الإسبان بمسدسات مائية تارة، أو يلقون شرارات في المناطق المكتظة بالسياح تارة أخرى، في مشهد بات يتكرر على طول الساحل الإسباني الساحر المطل على البحر المتوسط.
يرفع بعض المحتجّين لافتات تحمل عبارات من قبيل “شقتك على (إير بي أن بي) كانت بيتي!” وأخرى، كتبوا عليها ببساطة “عودوا إلى بلادكم”. امتدت هذه الاحتجاجات إلى وجهات أوروبية أخرى جاذبة للسياح، وإن بقيت سلمية حتى الآن.
تسلّط هذه التحركات في إسبانيا الضوء على تناقضات تعافيها الاقتصادي اللافت على مدى العقد الماضي منذ أزمة منطقة اليورو، الذي جعل منها نموذجاً مصغّراً لثلاثة من أبرز التحديات التي تواجه الدول الغنية اليوم: الهجرة، وأزمة السكن، والتحوّل في قطاع الطاقة.
في بعض الجوانب، قد تبدو إسبانيا بمثابة النقيض للولايات المتحدة. ففيما تواجه الدولتان تداعيات الفقاعات العقارية التي انفجرت قبل نحو عشرين سنة، ورغم تعافي كلّ منهما، فإن السياسات التي اتُبعت كانت متباينة إلى حدّ بعيد، وترزح الدولتان اليوم تحت وطأة ضغوط متزايدة.
كانت السياحة ركيزة أساسية في تعافي الاقتصاد الإسباني. لكن البلاد لم تعد محصورة بشعار “عطلات رخيصة تحت أشعة الشمس” الذي طالما جذب البريطانيين، فقد استقطبت في العام الماضي 134 مليون زائر، بزيادة قدرها 10 ملايين عن عام 2023، أي نحو ثلاثة أضعاف عدد سكانها البالغ 48 مليون نسمة. هذا رقم قياسي لم يُسجّل حتى في سنوات ما قبل الجائحة، ولم تتفوّق عليها سوى فرنسا، بينما جاءت الولايات المتحدة في المرتبة الثالثة.
اقرأ أيضاً: كيف يرضي مؤجرو “Airbnb” جيرانهم؟
نشأ عن هذا النمو توسّع كبير في الخدمات الموجّهة للسيّاح، من بينها، كما يوضح رافاييل أورتادو من شركة “أليانز” (Allianz) مستشفيات فاخرة، مثل عيادة ” بوشينغر فيلهلمي ” للصيام العلاجي في ماربيا، التي تستقطب الزوّار من مختلف أنحاء العالم بهدف خسارة الوزن.
لكن هذا الازدهار فاقم التوتّرات الناجمة أصلاً عن أزمة السكن التي يعاني منها السكان المحليون في المناطق السياحية، لا سيما مع الارتفاع الحاد في أعداد المهاجرين، الذي شجّعته الحكومة بشكل مباشر.
فقد استقبلت البلاد أكثر من مليون مهاجر خلال العام الماضي وحده. وفي ظلّ هذه الأوضاع، تبدو الضغوط الاجتماعية حتمية لا مفرّ منها، وقدرة إسبانيا على التعامل معها قد يقدم درساً قيماً لبقية العالم.
الفقاعة العقارية
كانت إسبانيا الدولة الوحيدة التي عانت من فقاعة عقارية تجاوزت في حدّتها ما شهدته الولايات المتحدة. فوفقاً لمؤشر “إس آند بي كايس-شيلر”، ارتفعت أسعار المنازل في الولايات المتحدة بنسبة 130% بين عامي 1995 و2005، فيما قفزت في إسبانيا بنسبة 213%، وبلغت ذروتها بعد عامين.
الأسباب كانت متشابهة: أنظمة مالية ضعيفة التنظيم أغرقت السوق بالقروض السهلة، وتدفّقات عالمية ضخمة من الأموال تجاوزت قدرة القطاع العقاري على الاستيعاب. كما أسهمت أسعار الفائدة المتدنية في منطقة اليورو في جذب المصارف الألمانية إلى قطاع البناء الإسباني بحثاً عن عوائد لا تقدمها السوق الألمانية.
وبعد انهيار “ليمان براذرز” في 2008، لجأت كل من إسبانيا والولايات المتحدة إلى زيادة الدين العام لاحتواء الأزمة. وبعد خمس سنوات، بلغ دين القطاع العام نحو 100% من الناتج المحلي في البلدين. لكن على عكس الولايات المتحدة التي تسيطر على عملتها ويمكنها طباعة المزيد منها، وجدت إسبانيا نفسها مقيّدة بعضويتها في منطقة اليورو، ما أجبرها على اعتماد سياسة تقشّف لتجنّب التخلف عن السداد.
واليوم، وبعد جائحة كورونا، تبلغ نسبة الدين العام 101.8% في إسبانيا و124.3% في الولايات المتحدة، ما يجعلها أكثر عرضة لضغوط متداولي السندات الذي يعاقبون الحكومات على سياساتها المالية، وسبق أن دفعوا إسبانيا نحو الأزمة.
قال إينيغو فرنانديز دي ميسا، رئيس شركة “روتشيلد” في مدريد الذي شغل منصب وزير المالية الإسباني إبّان الأزمة: “نحن اليوم في وضع مريح جداً لأننا اتّخذنا الخطوات اللازمة قبل عشر سنوات… كلّ الدول الأوروبية التي تشهد نمواً، مثل اليونان وقبرص وإيرلندا وإسبانيا، أجرت إصلاحاتها قبل عقد” لأنها كانت مضطرة. وأضاف في مؤتمر نظمته شركة “يونيجيستيون” (Unigestion) في مدريد الأسبوع الماضي، إلى أن تلك الضرورة تحوّلت إلى “فرصة هائلة”.
أجرت إسبانيا إعادة هيكلة جذرية لقطاعها المصرفي. ففي 2007، كان لديها 45 مصرفاً ادخارياً تعرف باسم “كاخاس”، مملوكة بشكل تعاوني وغالباً ما كانت خاضعة لسيطرة سياسيين محليين. واليوم، لم يتبقَّ منها سوى اثنين. في المقابل، تفادى القطاع المصرفي الأميركي إعادة هيكلة مشابهة، فيما ازدهر القطاع المالي غير المصرفي، ويبدو أن مزيداً من التحرير في الطريق مع ترمب 2.0.
اقرأ أيضاً: إسبانيا تستعد لنشاط سياحي شبه قياسي رغم التضخم وفوضى السفر
أما على صعيد العقارات، فقد تجاوزت أسعار المنازل في الولايات المتحدة اليوم ذروة فقاعة 2008 بنسبة 75%، ما فاقم أزمة القدرة على تملّك السكن.
أما في إسبانيا، فلا تزال الأسعار أدنى من مستويات 2007، غير أن المعروض لا يلبّي الطلب في المناطق التي يفضّل الناس العيش فيها، رغم كثرة أعمال التطوير العقاري في السابق.
فالمشاريع السكنية الضخمة التي شُيّدت في أماكن غير مرغوبة بقيت خاوية، بينما يتردّد المستثمرون الذين خسروا كثيراً خلال أزمة 2008، في البناء على نطاق كافٍ لتخفيف الضغط عن المدن والمناطق السياحية، ما يؤجّج الغضب الذي تنفجر على إثره الاحتجاجات.
الهجرة
في الوقت الذي تمضي فيه الولايات المتحدة في اتخاذ إجراءات صارمة تهدف لإعادة المهاجرين إلى بلدانهم، تسلك اسبانيا مساراً معاكساً تماماً. فقد وصفت إلما سايث، وزيرة الهجرة في حكومة الأقلية اليسارية، عام 2025 بأنه سيكون “محطة تُكرّس مكانة إسبانيا كمنارة للاندماج والتعايش مع المهاجرين”، مشيدة بإصلاح شامل دخل حيّز التنفيذ الشهر الماضي، يهدف إلى تسوية أوضاع نحو 300 ألف مهاجر غير موثّق سنوياً.
في الولايات المتحدة، تدفع الهواجس الثقافية نحو التضييق على المهاجرين القادمين من أميركا اللاتينية، في ظل الاعتقاد أن السكان من أصول لاتينية يواجهون صعوبة في الاندماج.
أما في إسبانيا، فتنظر الحكومة إلى التقارب الثقافي مع أميركا اللاتينية كأداة فاعلة لاستقطاب شباب موهوبين، ولا يطرح الاندماج قضية إشكالية بسبب اللغة، في حين لا يتوفر لدى أي دولة أوروبية أخرى مصدراً مشابهاً للوافدين الجدد.
حتى في الحالات التي تكون أكثر تعقيداً ثقافياً، تواصل إسبانيا تبنّي نهج ليبرالي لافت. فجزر الكناري تحوّلت إلى نقطة عبور رئيسية للوافدين من أفريقيا، في وقت بدأ فيه أبناء الجاليات الأفريقية يرسّخون وجودهم، كما يظهر في نجاحات لاعبي كرة قدم مثل لامين يامال وأنسو فاتي. وفي 2024، وقّعت مدريد اتفاقات مع غامبيا وموريتانيا حول “الهجرة الدورية”، تسمح للعمال بالقدوم والعمل بشكل قانوني ثم العودة إلى بلدانهم.
مع ذلك، فإن المسعى الجريء لتشجيع الهجرة يواجه معارضة. فإسبانيا، على غرار باقي الدول الأوروبية الكبرى، تشهد صعود حزب شعبوي مناهض للهجرة، حيث أظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة تقدّماً سريعاً لحزب “فوكس”، الذي بلغ تأييده نحو 15% هذا العام، رغم أن حجم تأييده لا يزال جدّ بعيد عن المستويات التي حققها “التجمّع الوطني” في فرنسا أو “البديل من أجل ألمانيا”. فالذاكرة الجمعية لحكم فرانثيسكو فرانكو الديكتاتوري، الذي استمر حتى عام 1975، ما تزال حاجزاً أمام تمدّد أقصى اليمين، بخلاف ما يحدث في فرنسا.
لكن تدفّق المهاجرين بلغ مستويات غير مسبوقة. ففي عام 2013، خلال الركود الذي أعقب أزمة اليورو، غادر أكثر من 450 ألف شاب إسباني البلاد بحثاً عن فرص عمل في الخارج، وهو ما يزيد بأكثر من الضعف عن عدد المهاجرين الوافدين آنذاك. وسرعان ما انقلبت المعادلة، فبحلول 2019، قبيل الجائحة، استقبلت إسبانيا 666 ألف مهاجر. وفي عامَي 2022 و2023، وصل عدد الوافدين إلى نحو 1.1 مليون شخص في كل عام.
ورغم هذا التدفّق الكبير، لم تتفجّر توتّرات اجتماعية كتلك التي شهدتها دول أوروبية أخرى، إذ ما تزال سوق العمل الإسبانية توفّر فرصاً كافية للوافدين.
ويضاف إلى ذلك أن انخفاض معدّلات الخصوبة، وهو اتجاه عالمي، يبدو أكثر حدة في إسبانيا، حيث سجّلت ولادة 1.19 طفل لكل امرأة في 2023، مقارنة بـ1.66 في الولايات المتحدة. ومن هنا، قد تشكّل الهجرة رافعة ضرورية للنمو الاقتصادي في إسبانيا. لكن الدرس الأهم الذي قد تقدّمه التجربة الإسبانية للآخرين هو أن نجاح هذا النموذج يتوقّف على قدرة الوافدين على الاندماج، من دون صدامات ثقافية.
الطاقة
تظهر إسبانيا بصورة متناقضة مع الولايات المتحدة في جانب آخر أيضاً، هو الطاقة. فاليوم، توفر المصادر البديلة نحو 77% من الكهرباء في البلاد، في مقدمتها طاقة الرياح والطاقة الشمسية، إلى جانب الطاقة النووية. إذ قطعت إسبانيا شوطاً أبعد من أي دولة أوروبية أخرى في هذا التحوّل، واضعة هدفاً طموحاً يتمثّل في الوصول إلى كهرباء نظيفة بالكامل بحلول عام 2050.
ويستند هذا التحوّل إلى مزايا طبيعية تمتاز بها إسبانيا، مثل وفرة أشعة الشمس وساحلها الطويل. كما يُسهم في التغلّب على إحدى نقاط ضعفها الجغرافية، المتمثلة في بعدها عن أبرز الدول المصدّرة للنفط، مثل روسيا. وفي ظل افتقارها إلى احتياطات كبيرة من الوقود الأحفوري، تبدو الطاقة النظيفة خياراً أكثر جاذبية بالنسبة لإسبانيا مقارنة بالولايات المتحدة.
يُنظر في إسبانيا إلى أمرين باعتبارهما من المسلّمات: أولاً، أن تغيّر المناخ تهديد جدي، وثانياً، أن الاستثمار في مصادر الطاقة الجديدة قادر على تحفيز الاقتصاد.
إلا أن منتقدي الطاقة البديلة سجلوا نقاطاً لصالحهم، بعدما شهدت معظم أنحاء شبه الجزيرة الإيبيرية انقطاعاً كاملاً للتيار الكهربائي استمر 19 ساعة. ورغم صعوبة تحميل مصادر الطاقة المتجددة وحدها مسؤولية ما حدث، فإن التقرير الحكومي الذي صدر الأسبوع الماضي والمؤلف من 182 صفحة، فشل في تقديم إجابات شافية على جميع التساؤلات. وتشير المعطيات إلى أن الانهيار سببه مشاكل في ربط الشبكة الكهربائية الوطنية، لا خلل مباشر في مكوّنات الطاقة النظيفة.
ومثلما تحوّلت الهجرة إلى اختبار حاسم للسياسات، تضع هذه الحادثة إسبانيا في موقع اختباري لقياس جدوى أحد أكثر السياسات إثارة للجدل عالمياً: التحوّل في قطاع الطاقة.
المضي قدماً
من أجل تحقيق النجاح، على إسبانيا تسريع بناء المساكن التي هي في أمس الحاجة إليها، ومعالجة ضعف الاستثمار المزمن في شبكة الكهرباء، وإثبات أن فتح الباب أمام العمالة المهاجرة يمكن أن يحقق مكاسب للجميع. يبدو أن اسبانيا تغرد خارج السرب في ملفات أخرى أيضاً، منها خلافها مع بقية دول الاتحاد الأوروبي إزاء خطّة “الناتو” لرفع الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي، في حين لم يتجاوز إنفاقها الدفاعي 1.28% في عام 2024.
ورغم تعرض الحكومة لفضيحة فساد، إلا أن عامل الوقت يصبّ في صالحها، إذ إن الانتخابات العامة غير مقرّرة قبل عام 2027. ومع ذلك، فإن أيّاً من هذه القضايا قد يكون كفيلاً بتقويض الهامش الضئيل الذي أبقى رئيس الوزراء بيدرو سانشيز في السلطة.
حتى الآن، بقيت الاحتجاجات محدودة رغم أنها لافتة. ففي برشلونة، لم يتجاوز عدد المتظاهرين أمام كاتدرائية “ساغرادا فاميليا” 600 شخص، أي أقل بكثير من التوقّعات. وذكرت صحيفة “لافانغوارديا” أن من بين الحالات القليلة التي تطلّبت تدخّل الشرطة، واقعة إنقاذ سائح تعرّض لهجوم لفظي من متظاهرين كانوا يهتفون “النازيون اخرجوا!” بعدما أثار غضبهم ارتداؤه قبعة “لنعد لأميركا عظمتها” المؤيدة لترمب.