اخر الاخبار

أين البديل عن الصين؟

أن تكون شيئاً آخر “غير الصين” ربما اعتُبر أمراً سهلاً. ارتبط ترويج التصنيع في العديد من الاقتصادات الآسيوية بمسألة الحفاظ على علاقات ودية مع بكين، وروابط تاريخية قوية مع الولايات المتحدة. لم تمانع بعض الدول توجيه انتقادات في خطاباتها إلى أميركا حين يخدم ذلك سياساتها الداخلية، لكنها لم تسعَ إلى الاختيار بين القوتين العُظميين. غير أن هذه الاستراتيجية النفعية قد تصبح أكثر صعوبةً مع التحولات العميقة في أنماط التجارة، ما قد يخلّف تداعيات كبيرة.

سواء أُطلق على هذا التوجّه اسم “الصين+1” أو “friendshoring” (أي الاعتماد على سلاسل التوريد في دول صديقة)، لم يكن الأمر أبداً انسلاخاً كاملاً عن الدولة الآسيوية العملاقة، بل مجرد استراتيجية تحوط. رئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم عبّر عن ذلك خلال مؤتمر العام الماضي قائلاً: “أقدّم بلادنا كأكثر المواقع حياداً وغير منحازة”. ويستحق المسؤولون الفيتناميون وساماً بسبب عدد المرات التي سمعتُ فيها بلادهم تعلن أنها رابحة في الحرب التجارية.

لكن وراء هذا الترويج للمزايا، يبقى عدد من التساؤلات الجادة: هل كان سعي أميركا لتقليل اعتمادها على سلاسل التوريد الصينية مجرد مرحلة مؤقتة أم بداية لتحول دائم؟

تصريحات ترمب المتناقضة

قدم الرئيس الأميركي دونالد ترمب إجابة جزئية على هذا التساؤل. لا تحاولوا الانشغال بالتكهن حول موعد أو كيفية فرض الرسوم الجمركية الموعودة على كندا والمكسيك، حيث أطلق ترمب سلسلة من التصريحات المتناقضة حول نواياه تجاه الجارتين يوم الأربعاء. مع ذلك، فإن ما قد يكون أكثر دلالةً هو مذكرة أصدرها البيت الأبيض مؤخراً تهدف إلى تقييد وصول الصين إلى التكنولوجيا والطاقة وغيرها من الصناعات الحيوية في الولايات المتحدة. كما يطالب ترمب المكسيك بتقليص الواردات الصينية المتزايدة.

سيصبح الأهم هو مكان التصنيع، وليس فقط مسار العبور إلى الأسواق الأميركية. يُمثل هذا تحولاً جوهرياً في التجارة العالمية، إذ سيؤكد على جاذبية التكتلات الإقليمية. كما أوضح سيث كاربنتر وراجيف سيبال، الاقتصاديان في “مورغان ستانلي”: “في المرحلة القادمة من إعادة التوطين، نتوقع تصاعد الضغوط لنقل القدرة الإنتاجية نفسها، فلم يعد كافياً أن تمر البضائع عبر شركاء تجاريين من أصدقائنا”.

تحول بهذا الحجم لن يحدث بين عشية وضحاها. تظل الصين أكبر مركز تصنيع في العالم، وتعتمد على الصادرات للحفاظ على معدل نموها، خاصة في ظل ضعف إنفاق المستهلك المحلي، واستمرار تداعيات أزمة العقارات لسنوات قادمة. أما الولايات المتحدة، فإعادة بناء قاعدة صناعية واسعة النطاق ستتطلب وقتاً، إن كان ذلك ممكناً أصلاً. لذلك، قد تصبح كندا والمكسيك أكثر أهمية في الاستراتيجية الصناعية الأميركية، وليس العكس. وإذا تراجع الاعتماد على سلاسل التوريد منخفضة التكلفة وسريعة العبور، فمن المرجح أن يؤدي ذلك إلى إبطاء مسار انخفاض التضخم لسنوات مقبلة، مع دفع آسيا أكثر نحو فلك الصين.

الإقليمية المتشددة.. هل انهارت العولمة؟ 

يبدو أن النزعة الإقليمية المتشددة هي الاتجاه الأساسي الذي تجدر مراقبته. عند تحليل هذه الحقبة، هل سيعتبرها المؤرخون الاقتصاديون نقطة تحول بدأت بفوز ترمب عام 2016؟ يرى كثيرون أن انتخابه كان الشرخ الأول في “إجماع واشنطن”، الذي هيمن منذ ثمانينيات القرن الماضي، وركّز على الأسواق المفتوحة، وتقليل التدخل الحكومي. لكن هناك محطات أخرى مهمة، مثل أعمال الشغب في سياتل عام 1999 التي أجهضت محادثات منظمة التجارة العالمية، ما يعكس تصاعد التوتر حول العولمة.

يرى الاقتصادي داني رودريك من جامعة هارفرد أن التحول نحو الإقليمية يزداد قوة. واستذكر ردود الفعل على كتابه “هل بالغنا في العولمة؟” الذي نشره عام 1997، قائلاً في بودكاست “فاينانشيال تايمز” مؤخراً: “حين وزّعت مسودة الكتاب بين الاقتصاديين التجاريين، قال لي أحدهم: كل هذا مقبول، لكن ألا ترى أنك تقدم ذخيرة للمتوحشين؟”. أضاف متسائلاً: “لماذا يُنظر إلى المتوحشين على أنهم في جهة واحدة فقط، بينما يُعتبر دعاة العولمة المفرطة، رغم تجاهلهم العواقب، أنهم يعملون لمصلحة الجميع؟”.

تحولات كبرى مع استثناءات

رغم هذه التوجهات، لا تزال هناك استثناءات مهمة. على سبيل المثال، رد الفعل ضد العولمة يتركز في التصنيع، وليس في قطاع الخدمات. كما أن الدولار لا يزال العُملة المهيمنة في التجارة العالمية، وسندات الخزانة الأميركية تبقى الأصول المالية الأكثر أهمية. مع ذلك، تشهد المصانع تحولات جذرية. هناك نقاشات مشروعة حول كيف سيحدث هذا التحول، وكيف يمكن حماية شركاء الأمن القومي البعيدين عن أميركا الشمالية، مثل اليابان وكوريا الجنوبية، من أن يتم استبعادهم من هذه الترتيبات الجديدة.

سلاسل التوريد لم تكن يوماً ثابتة، فهي دائمة التغير. لكن هذا الفصل الجديد سيمثل اختباراً لقوتها وقدرتها على التكيف مع قواعد اللعبة الجديدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *