أثرياء بريطانيا على رادار المراكز المالية العالمية بقيادة دبي وأبوظبي
يقدم فندق جميرا في منطقة نايتسبريدج بلندن غرفاً فاخرة تتجاوز تكلفتها 6000 جنيه إسترليني (7600 دولار) لليلة الواحدة، تتميز بحمامات رخامية، وغرف طعام خاصة، وإطلالات بانورامية خلابة. وعلى الرغم من أن الفندق يعكس جانباً من أفضل ما تقدمه لندن للأثرياء عالمياً، إلا أن أبوظبي -وليس لندن- هي التي استحوذت على اهتمام المستثمرين الأثرياء في حدث خاص أقيم مؤخراً.
شكّل الحدث مجرد نموذج حديث لمركز ثروة عالمي يستهدف الأثرياء الأجانب المقيمين في المملكة المتحدة وسط خطط حكومة حزب العمال برئاسة كير ستارمر، للحد من المعاملة التفضيلية للضرائب بالنسبة لهم. ويُطلق على هؤلاء وصف “غير المقيمين”، وتتباين شرائحهم بين أصحاب المليارات إلى المصرفيين في لندن، ويُنظر إليهم على أنهم هدف للعديد من المدن التي تقدم ضرائب أقل وحوافز أخرى لإغرائهم بمغادرة بريطانيا.
في الأشهر الأخيرة، كثف المصرفيون والمحامون وغيرهم من المهنيين من دبي واليونان وسنغافورة، وغيرها من المدن، جهودهم لجذب غير المقيمين المحبطين من الأوضاع في المملكة، وفقاً لأشخاص مطلعين على الأمر. وتتراوح أساليبهم بين إقامة “جولات ترويجية”، مثل تلك التي تُقام في فندق جميرا في دبي، وحتى بناء علاقات مع شركات المحاماة في مدينة لندن.
تتمثل الغاية من ذلك في قياس مدى استعداد الأفراد للانفصال عن المملكة المتحدة، حسبما قال الأشخاص الذين طلبوا عدم الكشف عن هوياتهم عند مناقشة شؤون تخص العملاء. وقال دومينيك فوليك، رئيس مجموعة العملاء الخاصين في شركة “هينلي آند بارتنرز” (Henley & Partners) لاستشارات الهجرة: “قبل عقد من الآن، كنا نقيم فعاليات كبيرة في مومباي وشنغهاي وسنغافورة تركز فقط على القدوم إلى المملكة المتحدة. لكن الآية انقلبت الآن”.
استهداف أثرياء لندن
تستضيف وكالة حكومية قبرصية حدثاً في بورصة لندن الشهر المقبل، يستهدف بشكل مباشر حوالي 75 ألفاً من غير المقيمين في المملكة المتحدة، معظمهم في لندن. كما رعت شركة “تشيومنتي” (Chiomenti)، إحدى أكبر شركات المحاماة في إيطاليا، حدثاً لـ”هينلي آند بارتنرز” في لندن هذا الشهر بعنوان: “غير المقيمين: هل أبقى أم أرحل؟”. وتقدم كل من قبرص وإيطاليا إعفاءات ضريبية على الأرباح الخارجية لأكثر من عقد.
من جانبه، استضاف مكتب أبوظبي للاستثمار التابع لحكومة الإمارة الحدث في لندن بالتعاون مع مركز أبوظبي المالي العالمي، وفقاً لوثائق اطلعت عليها “بلومبرغ”. ورفض متحدث خارجي باسم مكتب أبوظبي للاستثمار التعليق على الأمر. فيما قال ممثل عن مركز أبوظبي المالي العالمي إن الحدث “كان جزءاً من سلسلة مشاركات عالمية من قبل المركز في الولايات المتحدة وآسيا وأوروبا لتسليط الضوء على جاذبية أبوظبي كأحد أسرع المراكز المالية العالمية نمواً”.
بدأت مشاكل غير المقيمين تتبلور في وقت سابق من العام الجاري عندما سعت الأحزاب السياسية الرئيسية في بريطانيا إلى إلغاء نظام ضريبي يقول المنتقدون إنه ميزة غير عادلة للأثرياء من خلال إعفائهم من الضرائب البريطانية على أرباحهم الخارجية. ويشير مؤيدو النظام إلى أن هناك أكثر من 8 مليارات جنيهات إسترلينية من الضرائب التي يساهم بها غير المقيمين كل عام، بالإضافة إلى مجموعة من الفوائد الاقتصادية الأخرى، مثل الوظائف التي يتم إنشاؤها والأعمال الخيرية.
خوف من تغيير الضرائب البريطانية
في مارس، رضخت الحكومة المحافظة آنذاك للضغوط لزيادة الأموال للناخبين في المملكة المتحدة من خلال مطالبة غير المقيمين بدفع الضرائب على الأرباح الخارجية بعد الإقامة في المملكة المتحدة لمدة أربع سنوات، بدلاً من 15 عاماً الحالية. ثم تعهد حزب العمال بقيادة ستارمر بالذهاب إلى أبعد من ذلك قبل فوزه الساحق في الانتخابات في يوليو: أعلنت وزيرة المالية راشيل ريفز عن نظام جديد يحتفظ بالمدة الزمنية المخفضة ولكنه يسعى أيضاً إلى إدخال الأصول الخارجية تحت ضريبة الميراث البريطانية، مما يؤكد أسوأ مخاوف العديد من غير المقيمين.
تدخل التغييرات حيز التنفيذ اعتباراً من أبريل 2025، وهو التغيير الرئيسي الثالث في نظام غير المقيمين في المملكة المتحدة خلال العقد الماضي. ويستغل المنافسون المحتملون عدم الاستقرار، حيث أشارت وكالة ترويج الاستثمار الوطنية في قبرص إلى “التغير المستمر” في النظام الضريبي في المملكة المتحدة في دعوة لحدثها في لندن المزمع عقده 4 ديسمبر المقبل.
البحث عن وجهات بديلة لبريطانيا
تشهد شركات المحاماة في مدينة لندن أيضاً زيادة في النشاط؛ حيث يدرس غير المقيمين الذين كانوا يأملون في البقاء في بريطانيا خطواتهم التالية. يقبل البعض على مضض الواقع الجديد في المملكة المتحدة، بينما يبحث آخرون بنشاط عن قاعدة بديلة.
قال بيرس ماستر، شريك في لندن يركز على الأفراد فائقي الأثرياء لدى شركة “تشارلز راسل سبيتشليز” (Charles Russell Speechlys) للمحاماة: “نتلقى المزيد من المكالمات حالياً. يمضون في خططهم بقدر من الثقة، حتى لو كان شكلاً من أشكال الثقة التي لم يكن الكثير منهم يرغبون فيه”.
في حين أن الأرقام الدقيقة حول المغادرين الفعليين غير واضحة، فإن بعض غير المقيمين يعبرون عن عدم رضاهم من خلال الانتقال بالفعل إلى أماكن أخرى.
من بينهم رجل الأعمال النيجيري اللبناني باسم حيدر، المتبرع لحزب المحافظين الذي انتقل إلى اليونان، وهي دولة قدمت نظاماً خاصاً بها لغير المقيمين على غرار المملكة المتحدة خلال العقد الماضي. غادر المستثمر بمجال التكنولوجيا الألماني كريستيان أنجرماير لندن هذا العام إلى مدينة لوغانو السويسرية بعد حوالي عقد من الزمن من ادعاء وضع غير المقيم، واصفاً الإصلاحات في المملكة المتحدة بأنها “خطأ فادح”.
حتى الذين قرروا البقاء في بريطانيا، على الأقل في الوقت الراهن، يتراجعون بالفعل. وأظهر استطلاع حديث شمل 115 ثرياً من غير المقيمين أجرته “أكسفورد إيكونوميكس” بتكليف من مجموعة الضغط “المستثمرون الأجانب لبريطانيا”، أن الأفراد قد تخارجوا بالفعل من أصول محلية بقيمة إجمالية قدرها 840 مليون جنيه إسترليني قبل دخول الإصلاحات المخطط لها حيز التنفيذ، بما في ذلك العقارات والتمويل والضيافة.
في أماكن أخرى، تبدو الصورة أكثر تعقيداً، حيث يقول البعض إنهم يخططون للبقاء في بريطانيا حتى يصلوا إلى عتبة العشر سنوات التي تخضع فيها أصولهم العالمية لضريبة الميراث البريطانية. قال أحد رواد الأعمال في مجال التكنولوجيا الذي يطالب بوضع غير المقيم، والذي طلب عدم الكشف عن هويته بسبب مناقشة الأمور الضريبية، إنه يخطط فقط للمغادرة في وقت لاحق من هذا العقد بمجرد أن ينهي طفله الأصغر دراسته في لندن.
تتحدث هذه المداولات أيضاً عن نقطة أوسع؛ في حين أن المزايا المالية للانتقال غالباً ما تكون واضحة، فإن الفروق في نمط الحياة والثقافة يمكن أن تعقّد عملية اتخاذ القرار بالنسبة للبعض. ويمكن أن تصل درجات الحرارة في الإمارات العربية المتحدة في الصيف إلى أكثر من 50 درجة مئوية (122 درجة فهرنهايت)، بينما يواجه أولئك الذين يتطلعون إلى موناكو احتمال استبدال القصور في لندن بشقق أصغر حجماً. ويمكن أن يكون العثور على مكان في المدارس الدولية المناسبة تحدياً في العديد من المواقع العالمية.
خيارات متنوعة أمام الأثرياء
قال مطور العقارات البريطاني نيك كاندي، أحد الشقيقين وراء تطوير “ون هايد بارك” الفاخر للغاية في لندن: “الأثرياء لديهم خيارات، حيث جعلت جائحة كوفيد الجميع يدركون أكثر من أي وقت مضى كيف يمكنهم التنقل بثرواتهم ولا يتعين عليهم دائماً العيش في مكان واحد”.
وتُعتبر سويسرا وإيطاليا والإمارات العربية المتحدة من بين الخيارات البديلة الأكثر ملاءمة لغير المقيمين. لكن المناطق البعيدة الأخرى تسعى أيضاً للاستفادة من حالة عدم اليقين من أجل جذب أعمال جديدة.
رعت وكالة تجارية بنمية أيضاً حدث “هينلي آند بارتنرز” الذي أقيم في غرفة مكسوة بألواح البلوط في قاعة “آيرونمونجرز” في لندن. وتعود شعارات النبالة على جدران القاعة إلى الوقت الذي قدمت فيه المملكة المتحدة نظام غير المقيمين في القرن الثامن عشر لحماية الاستثمارات في مستعمراتها. ومن بين الذين يبحثون عن أعمال جديدة في التجمع كان مسؤول تنفيذي من أحد أكبر البنوك الخاصة في جبل طارق، وهي منطقة بريطانية خارجية لا تفرض ضرائب على الأرباح الرأسمالية أو الميراث.
قالت أليكس مويرون، المديرة التجارية في وكالة “بروباناما”: “تقدم بنما خياراً جذاباً لمن يحملون صفة غير المقيمين من الناحية الضريبية في المملكة المتحدة، والذين يبحثون عن مناطق مستقرة وذات جدوى من حيث الضرائب”.
لكن الأمر لا يقتصر على الأثرياء الأجانب الذين يعيدون التفكير في مستقبلهم بالمملكة المتحدة. فقد أفادت “بلومبرغ” أن الملياردير البريطاني ومؤسس صندوق التحوط، آلان هوارد، يدرس الانتقال من لندن إلى جنيف. كما أن أحد أفراد عائلة كماني الثرية، التي تقف وراء عملاق صناعة الأزياء البريطاني “بوهو غروب” (Boohoo Group)، نقل إقامته من إنجلترا إلى الإمارات في وقت سابق من هذا العام، وفقاً لوثائق السجل التجاري البريطاني.
قالت جو إيكلز، مؤسسة شركة “إيكورد” (Eccord) الاستشارية للعقارات في لندن: “من بين عملائنا الذين يقررون المغادرة، فإن الغالبية العظمى يتمتعون بمرونة عالية في التنقل. إما أن يكون لديهم أبناء بالغون قد غادروا المنزل، أو ليس لديهم أطفال وبالتالي لا يرتبطون بمدارس. أو أن لديهم روابط مع دولة أو منطقة أخرى، ما يجعل الانتقال أو العودة خطوة طبيعية”.
“مزيد من الوقت في الشرق الأوسط”
كاندي، البالغ من العمر 51 عاماً، جمع ثروة من الاستثمار في العقارات في المملكة المتحدة، ولكنه الآن يوجه اهتمامه إلى خارج حدودها. وكان كاندي من بين الحاضرين في حدث أبوظبي الشهر الماضي في فندق “جميرا كارلتون تاور”، وهو فندق من فئة الخمس نجوم يضم ما يقرب من 200 غرفة ومملوك لمجموعة من الشركات التابعة للأسرة الحاكمة في دبي. وتضمنت الموضوعات التي جرت مناقشتها في الحدث الاستدامة والذكاء الاصطناعي.
قال مستثمر العقارات، الذي يمتلك منازل في لندن وأكسفوردشاير، إنه يخطط الآن لقضاء مزيد من الوقت في الشرق الأوسط، حيث لديه مشاريع كبيرة. وربما ليس من المستغرب، أنه كان واضحاً بشأن علاقة بلده الأم مع سكانها الأثرياء الأجانب.
واختتم: “سنشهد أكبر هجرة للعقول الموهوبة التي شهدتها هذه البلاد على الإطلاق. ولن يعودوا مسرعين”.