“آركتيك 2” يضخ غاز روسيا القطبي إلى آسيا رغم العقوبات

لم يقف الجليد القطب الشمالي عائقاً أمام طموحات روسيا لمضاعفة إنتاج الغاز المُسال، لكنها تكافح مدّ العقوبات الغربية الذي طال مشروع “آركتيك إل إن جي 2” ليجعله ساحة مواجهة جديدة أسلحتها قيود تستهدف السفن ومحطات الاستقبال الصينية. السؤال اليوم هو: إلى أي مدى قد يصمد هذا المشروع أمام حصار الغرب؟
ما هو مشروع “آركتيك 2″؟
“آركتيك 2” هو مشروع روسي لإنتاج الغاز المُسال، يقع في شبه جزيرة غيدان على بحر كارا شمال الدائرة القطبية الشمالية. أعلنت شركة “نوفاتك” (Novatek)، في بيان صدر في سبتمبر 2019، عن اتفاق المساهمين في شركة “آركتيك إل إن جي 2″، التي تأسست لإدارة وامتلاك أصول مشروع الغاز المُسال، على قرار الاستثمار النهائي في المشروع، الذي يشمل تطوير حقل “أوترينييه”، وبناء منشأة لإسالة الغاز في شبه جزيرة غيدان، كما يتضمن شراء كل الشركاء الغاز المُسال على المدى الطويل بما يتناسب مع حصصهم.
اقرأ أيضاً: “إس آند بي”: واشنطن تعترض على تشغيل مشروع الغاز الروسي “آركتيك 2”
تملك “نوفاتك” الحصة المسيطرة في شركة “آركتيك إل إن جي 2” بنسبة 60%، أما الحصة المتبقية، فهي موزعة على 4 شركات أخرى بواقع 10% لكل منها؛ “توتال” و”تشاينا ناشيونال بتروليوم” (CNPC) و”سينوك” و”جابان آركتيك إل إن جي” (Japan Arctic LNG)، وهذه الأخيرة كونسورتيوم بين “ميتسوي آند كو” و مؤسسة “جابان أورغانايزيشن فور ميتالز أند إنرجي سيكيوريتي” (Japan Organization for Metals and Energy Security).
القدرة الإنتاجية للمشروع
بحسب بيان “نوفاتك”، يتكون المشروع من ثلاث محطات إسالة، وقد بدأ تشغيل الأولى في 2023، والثانية في 2024، فيما ستدخل المحطة الثالثة الخدمة في 2026، بطاقة إنتاجية كلية تبلغ 19.8 مليون طن سنوياً، بواقع 6.6 مليون طن سنوياً لكل محطة، وتُقدّر النفقات الرأسمالية التي يتطلبها المشروع ليبلغ إنتاجيته القصوى بنحو 21.3 مليار دولار.
في المقابل، لا تتوفر بيانات رسمية عن إنتاج “آركتيك 2” من الغاز المُسال وصادراته، سواء من الحكومة الروسية أو “نوفاتك”، وقد نقلت “بلومبرغ” إلى أن متوسط إنتاج المشروع عند بدء تشغيله في ديسمبر 2023 بلغ 13.7 مليون متر مكعب يومياً من الغاز، ثم خفضت “نوفاتك” عمليات المعالجة في يونيو 2024 إلى ما يزيد قليلاً عن 8 ملايين متر مكعب من الغاز، ما يمثل أدنى مستوى منذ فبراير السابق.
ورغم رفع المنشأة إنتاج الغاز فائق التبريد في أغسطس وسبتمبر 2024، فقد أوقفت عمليات الإسالة في أكتوبر، بعدما حدت العقوبات من خياراتها في عمليات شحن الصادرات وبيعها، ونظراً لارتفاع المخزون أيضاً. ثم خفض الإنتاج من المشروع في نوفمبر من نفس العام إلى قرب الصفر.
اقرأ المزيد: العقوبات توقف عمل محطة “أركتيك 2” للغاز المسال الروسي
في 2025، رفع “آركتيك 2” إنتاجه إلى مستويات غير مسبوقة، إذ سجّل يومي 28 و29 يونيو متوسط 14 مليون متر مكعب يومياً من الغاز. وبلغ الإنتاج مستوى قياسياً جديداً في معظم سبتمبر بمتوسط 17.9 مليون متر مكعب يومياً، وهذا ارتفاع بنسبة 14% عن أغسطس، الذي شهد ذروة سابقة مع متوسط إنتاج بلغ 15 مليون متر مكعب يومياً خلال معظم الشهر، وفق تقرير من بلومبرغ.
من يستورد شحنات “آركتيك 2″؟
راهناً، تُعدّ الصين المشتري الأبرز، وربما الوحيد، للغاز المُسال الروسي من “آركتيك 2″، وقد بدأت الصادرات تتدفق إلى محطة “بيهاي” الصينية، المنفذ المخصص لاستقبال هذه الإمدادات.
ووصلت الشحنة الأولى إلى المحطة أواخر أغسطس، قبيل زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الصين للقاء نظيره شي جين بينغ وقادة آخرين منهم رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي.
ثم توالت التدفقات الروسية على المحطة ليصل عددها إلى 12 شحنة، بخلاف الناقلات المتجهة إلى آسيا.
عقوبات الغرب على “آركتيك 2”
في مطلع نوفمبر 2023، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على “آركتيك 2″، في أول إجراء يستهدف منشأة لتصدير الغاز المُسال في روسيا مباشرةً، ما دفع “نوفاتك” في ديسمبر من نفس العام إلى وقف الإنتاج في المشروع وإخطار عدد من المستوردين بتعرضها لحالة قوة قاهرة، إلا أن الشركة بدأت تشغيل وحدة الإسالة الأولى بعد أيام، رغم إعلان الشركاء الأجانب حالة القوة القاهرة على مشاركتهم في المشروع أيضاً. لكن العقوبات عرقلت الصادرات حتى أغسطس، بحسب بلومبرغ.
جاء في تقرير بلومبرغ أن المشروع طلب شراء 21 ناقلة كاسحة للجليد؛ 6 من “هانوها أوشن” (Hanwha Ocean) الكورية الجنوبية، التي عُرفت سابقاً باسم “دايو شيب بيلدينغ آند مارين إنجنيرنغ”، و15 ناقلة غاز مُسال من “زفيزدا” (Zvezda)، صانعة السفن الروسية، التي أجّلت إنجاز السفن الخمس الأولى في ظل العقوبات الغربية التي حظرت تصدير بعض إمدادات تجهيز الناقلات إلى روسيا.
اقرأ أيضاً: سر إفلات روسيا من عقوبات الغاز مخبأ في شقة هندية
وفي يونيو 2024، اعتمد الاتحاد الأوروبي عقوبات تحظر منع نقل الغاز المسال من السفن القادرة على كسر الجليد إلى نظيرتها الأصغر في موانئ الاتحاد.
واستهدفت عقوبات أميركية جديدة في أغسطس 2024 سفن الغاز المُسال المرتبطة بروسيا، بما فيها ناقلات يُشتبه في أنها حملت شحنات من “آركتيك 2″، الذي تضرر بالفعل من عقوبات غربية قيّدت قدرته على الحصول على الناقلات القادرة على الإبحار في الجليد.
وفي أواخر أكتوبر، أقر الاتحاد الأوروبي الحزمة التاسعة عشرة من العقوبات على روسيا. وأشار البيان الصادر عن الدنمارك، التي تتولى الرئاسة الدورية للتكتل، إلى أن التدابير تشمل حظر واردات الغاز المُسال الروسي اعتباراً من 2027، مزيد من المعلومات في الفيديو أدناه.
وبحسب وكالة رويترز، أثرت العقوبات الغربية على “آركتيك 2” بأكثر من شكل؛ فعرقلت صادرات المشروع، وأعاقت تجميع وتشغيل وحدة الإسالة الثانية في الموعد المقرر في 2024، لتبدأ الإنتاج في مايو، فيما تحيط الضبابية بالمحطة الثالثة المزمع تشغيلها في 2026.
التفاف “آركتيك 2” على العقوبات
فضلاً عن عرض الغاز المُسال بتخفيضات كبيرة، لجأت روسيا إلى استراتيجية سبق أن أثبتت نجاحها في الالتفاف على العقوبات المفروضة على صادرات البلاد من النفط؛ وأبرزها “أسطول الظل”، إذ بنت شبكة معقدة تمتد أطرافها من دبي مروراً بالهند ووصولاً إلى الصين، لتشكيل أسطول من ناقلات الغاز لنقل الوقود من “آركتيك 2” وللعثور على مشترين راغبين.
جاء في تقرير من “بلومبرغ” في سبتمبر 2024، أنه منذ الربع الثاني من 2023، انتقلت ملكية أكثر من 50 ناقلة غاز مُسال إلى شركات أخرى، بينما كان هذا النوع من الصفقات نادر الحدوث قبلاً ذلك، وفقاً لـ”ويندوارد”، شركة استشارات المخاطر لأصحاب السفن والحكومات، فيما أشارت “كبلر” (Kpler) إلى أن بعض سفن الغاز المسال التي جرى الاستحواذ عليها تبحر في مسارات استُخدمت عادة لنقل الغاز الروسي.
هل يستطيع المشروع البقاء صامداً أمام عقوبات الغرب؟
لا توجد إجابة مؤكدة بنعم أو لا على هذا السؤال، إذ تبدو معركة “آركتيك 2” مع العقوبات وكأنها صراع بقاء طويل الأمد بين طموحٍ روسي لتوسيع النفوذ في أسواق الغاز المسال، وإصرارٍ غربي على كبح أي تمدد جديد لموسكو في الطاقة العالمية.
رغم تشديد العقوبات الغربية منذ عام 2023، تكشف بيانات تتبّع السفن لدى “رويترز” أن المشروع واصل عملياته فعلاً في عام 2025، إذ حمّل ست ناقلات على الأقل من منشأة “آركتيك 2” في شبه جزيرة غيدان رغم إدراج بعضها في القوائم الأميركية للعقوبات، وفق الوكالة.
تشير تقديرات “بلومبرغ” إلى أن متوسط إنتاج المشروع في سبتمبر بلغ نحو 17.9 مليون متر مكعب يومياً من الغاز، وهو أعلى مستوى له منذ بدء التشغيل، ما يعكس قدرة موسكو على مواصلة التصدير حتى في ظل القيود.
في السياق نفسه، صرّح وزير الطاقة الروسي سيرغي تسيفيليف في تصريحات نقلتها “رويترز” أن بلاده تعتزم زيادة صادرات الغاز المُسال إلى الصين من خلال مشروعي “آركتيك 2” و”سخالين 2″، مؤكداً أن التعاون في مجال الطاقة بين روسيا وكل من الصين والهند يشهد “تقدماً جوهرياً” رغم محاولات الغرب خنق الإمدادات الروسية.
هذه التحركات تشير إلى أن موسكو مضت قدماً في إعادة توجيه صادراتها نحو الشرق لتعويض الأسواق الأوروبية المفقودة حتى سبتمبر الماضي رغم العقوبات.



